[ad_1]

اخترنا من بين هؤلاء الفنانين الذين سلكوا مسلكا سرديا روائيا في أعمالهم التشكيلية  الفنان عاطف معطالله، وهو فنان تشكيلي تونسي من مواليد 1981 بمدينة الفحص بولاية زغوان. متخرج في المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس ومتحصل على جائزتين كأفضل رسام معاصر في باريس سنتي 2015 و2016. تتسم لوحات عاطف معطالله بالطابع الكلاسيكي في طريقة الرسم، يجسد من خلالها شخوصا شديدة الواقعية تتسم بالدقّة في رسم الجسد وملامح الوجه. تفاصيل يرسمها بدقّة متناهية يهتم فيها بإظهار الظل والضوء مما يؤدي إلى خلق مشاهد شديدة الواقعية. أعمال الفنان عاطف معطاالله ذات طابع سردي تُجسد الحياة اليومية البسيطة، يعيد من خلالها النظر في رموز الرسم السردي من خلال توضيح دقيق لمشاهد وشخوص تثير نظراتها المؤرقة جوًا من المعاناة. قام عاطف بإنجاز سلسلة من اللوحات أطلق عليها تسمية “الأرض القاحِلة” استحضر فيها الحياة غير المُستقرة التي يعيشها سكان مدينة الفحص. تترافق الشخوص مع حيوانات أو مواد يومية مُعيّنة، كقارورة مياه، إبريق شاي أو علبة سجائر. من خلال ظهورها العابر تشير إلى هشاشة الظروف الاجتماعية. جلّ الأشخاص الممثلين في لوحاته من الطبقة الفقيرة، كعمال أو عاطلين عن العمل، مُهمشين أو بلطجية، متسولين أو مسافرين. يقلب عاطف اللوحة القُماشية ويرسم على ظهرها، يرسم على الطبقة المُهملة من اللوحة أي المساحة الخلفية التي عادةً لا يكترث لها الرّسام، بهذه الطريقة تتوافق شخوصه المُهمشة مع الخلفية المُهملة. يُسلط الفنان الضوء على الشارع و حياة المواطن العادي، لا يهتم بالجمال ومظاهر الترف و البذخ الزائفة، فجميعها أشكال لا تمثل واقع غالبية التونسيين، فهدفه رسم أشكال الحياة البسيطة للإنسان، قد يختزلها في علبة سجائر ملقاة على الأرض أو قوارير مشروب رخيصة فارغة، مرورًا إلى رسم شخوص ذات تعابير وجه تجمع بين البؤس و اللامبالاة. نجد شخصية ترتدي ملابس بالية وأخرى ذات شعر أشعث وآخر يُدخن سيجارة بينما يتأمل دُخانها المتصاعد الذي يتلاشى تدريجيًا كما تتلاشى أحلامه.

انتقل عاطف معطالله من تجسيد حياة  الشارع اليومية إلى نقل معاناته داخل السجن. سنة 2015 وجد  الفنان نفسه خلف القضبان مع ثُلة من أصدقائه بسبب استهلاك المخدرات. وهو ما ألهمه بإنجاز معرض شخصي تحت عنوان “سحاب، سماء”. يدعو الفنان من خلال هذا المعرض المتفرج للتأمل في هذه التجربة القاسية. تُصور أحد لوحاته سريرا بطابقين يستلقي فوق أحدهها شخص يدخن سيجارة، في حين يقوم شخص آخر في الطابق الثاني من السرير بأداء الصلاة، بينما يجلس خلفه الفنان وتبدو عليه ملامح اليأس والضجر. يلجأ كل واحد منهم إلى طريقة لتقليل حجم المعاناة. يتعلق أحدهما بالإيمان الديني من خلال الصلاة، والثاني يتعلق بالمتعة عبر تدخين سيجارة، أما الفنان فيبدو مُستسلمًا لأحزانه. ننتقل إلى اللوحة الموالية تحت عنوان “بيت الدجاج” يشير عنوان هذه اللوحة إلى المصطلح العامي المستخدم للإشارة إلى زنازين قاعات المحاكم في تونس. فبيت الدجاج هي زنزانة ضيقة جدًا ذات روائح رهيبة يسبّب ضيق مساحتها الرهاب للمساجين. تُجسد اللوحة مجموعة من المعتقلين يقفون في صمت وخوف من المصير المجهول. أدمج الفنان في هذا المشهد ثلاث دجاجات يُحاكي هدوؤها سلوك المدعى عليهم الذين يتوقون إلى الخروج من ذلك المكان الخانق.

لوحة: عاطف معطالله
لوحة: عاطف معطالله

تُذكرنا رسومات عاطف معطاالله بأسلوب اللوحات الكلاسيكية، حيث يشتركان في الطابع التشخيصي الذي يُحاكي الواقع. فإن كانا متقاربين من ناحية طريقة التقديم الحكائية دون تحريف أو ترميز مُبالغ فيه، فهي تقطع معه من ناحية المواضيع التي يطرحها، فهي مواضيع اجتماعية معاصرة بحتة. تتسم الممارسات المعاصرة اليوم بالتمرد على أسس الرسم التقليدي وأساليبه والتحرر الكامل من مفهوم المحاكاة عبر إنجاز أعمال مُغللة بالرموز على المتقبل فكّ تشفيرها من أجل فهمها. خلافًا لذلك تعتبر لوحات عاطف معطاالله استثناء حيث لا يكترث بالتحول الأسلوبي للرسم المعاصر، حيث يهدف من خلال لوحاته إلى تقديم صورة مُصغرة لعالمه ومحيطه، بطريقة يفهمها الإنسان العادي البسيط دون أن يُغرقه في متاهات رمزية. رغم ذلك، لا تخلو أعماله من عمق في الطرح وبراعة في الرسم.

ننتقل إلى أعمال الفنان نضال شامخ الذي جسّد من خلال لوحاته الأزمات الاجتماعية والسياسية بطريقة تختلف عن أسلوب عاطف معطالله في الطرح والرسم. نضال شامخ هو فنان تشكيلي تونسي من مواليد 1985 في الدهماني بتونس. متخرج في جامعة السوربون بباريس. تعكس أعماله التقلبات السياسية التونسية. تتسم رسوماته بالطابع التشخيصي الذي يحاكي الواقع، تكون عادةً مُجزّأة إلى حد ما مبعثرة إذ تتميز بديناميكية فوضوية. ينجذب نضال شامخ إلى التعقيد في رسم شخوصه فهي بمثابة فوضى مركَّبة تكون نتيجة تركيب صور ورموز سياسية وتاريخية وحتى علمية. يحاول التنسيق بينها فيُفككها ويعيد دمجها حتى يُخفي الحدود البصرية بينها. عمومًا، لوحات نضال شامخ تكون ذات خلفية بيضاء، تستوطنها شخوص يكون حضور اللّون فيها أمرًا نادرًا. شخوص عادةً ما تكون ذات علاقة بالوضع السياسي والاجتماعي التونسي، كصور لشهداء أو رموز سياسية بارزة، أو كخوذة عسكرية وجماجم وتشريحات جسدية. مختلف هذه الصور إما رسمها يدويًا أو قام بطباعتها على المِحمل. يقوم نضال بتجميع صور أرشيفية من الصحف والمجلات التي تهتم بالشأن السياسي، ليطبعها على قماش اللوحة، بهذه الطريقة يوثق نضال الذاكرة الجماعية. قد تتخلل هذه الرسوم رموز أو شخوص لا علاقة لها بالسياسة، كصور لطيور أو أبيات شعرية أو أشخاص أدمجهم مع أجنحة أو مع رؤوس حيوانية. بهذه الطريقة يخلق نضال أشكالا جديدة  ذات طابع رمزي قادرة على عكس العالم من حولنا. وهنا تكمن الصعوبة حيث عليه التعامل مع عناصر موجودة ثم يعيد صياغتها بصريًا عبر دمجها مع تراكيب أخرى. في سلسلته التي تحمل عنوان “بماذا يحلم الشهداء” التي تتكون من 12 لوحة أنجزها بعد الثورة التونسية، صور فيها أجساد الشهداء ووجوههم بطريقة دمجها مع صور تشريحية علمية، ليضيف عليها رموزا ترتبط بالقمع والعنف اللذين سلطتهما السلطة على المتظاهرين في تونس. ليدمج معها عناوين أبرز الصحف والتدوينات التي غزت المشهد الإعلامي وقت الثورة.

لوحة: عاطف معطالله
لوحة: عاطف معطالله

من لوحة إلى أخرى تتكثف حركة الشخوص الثورية المحتجة، مقتطفات تجسد عدم الاستقرار السياسي، فيُخيم اللّون الأسود تدريجًا على المساحات البيضاء المتفائلة. من عمل إلى آخر تغزو صور الدم والموت لوحاته. مشاهد تعكس الفشل السياسي وتترجم حجم المعاناة النابعة عن الحرية المقموعة. ترعرع نضال شامخ وسط عائلة مناضلة، حيث سُجن والده عدّة مرات تحت حكم بن علي، حيث كان يزوره باستمرار داخل السجن. كما خضعت عائلته للمراقبة تحت إشراف السلطة. وبالتالي ليس من قبيل المصادفة أن تحمل أعماله طابعا ثوريا ملتزما، فقد ترعرع على النضال وحب الوطن منذ نعومة أضافره. تختلف رسومات نضال شامخ عن لوحات عاطف معطالله من ناحية طريقة التقديم والطرح، إلا أنهما يلتقيان في نقاط كثيرة. يشتركان في الطابع التوثيقي وجانب المحاكاة، إلا أنهما يختلفان من ناحية طريقة التقديم. فأعمال عاطف معطالله أشبه بخشبة مسرح تتمركز فوقها شخوص تُحاكي أسلوب التصوير الفوتوغرافي. في المقابل ينقل نضال شامخ صورا لشخوص واقعية لكن لا يلتزم بالجانب الوفي في النقل، حيث يجزئ الجسد و يفككه وأحيانًا يدمجه مع عناصر أخرى فتبدو هجينة.

رغم هذه الاختلافات التقنية والأسلوبية إلا أنهما يتفقان على حب الوطن، حيث يدفعهم الإحساس بالواجب لتلبية نداء الشارع وتجسيد حجم معاناته .

[ad_2]

Source link

من sanaanow