[ad_1]

غريب

أنا الغريب، كحصان بريّ نافر، يذرع خرائط العالم ولا يمكث في الحقب، أركض في الفضاء وراء الكلمات المبهمة، وراء الانكشاف التدريجي للغة، فريسة النكران والليالي المظلمة. لم أتعلم الامتثال، كلمعة البرق، كزلزال خاطف يرسم على صفحة الغبار دوائر عاصفة، يرسم نساء جميلات بألوان مدهشة. الوقت لا شيء.

الوقت لا شيء، فأنا خارج الزمن، خارج المكان، تنكرني أعضائي، تنكرني ملامحي. أنا الغريب، النافر كحصان بريّ، كلما حدقت إلى مهرة تحولت، وأخذت شكل جنية هائمة في غابات من شهوة صماء. المغدور، الملطخ بآثام العالم، قادم من المكابدة، من وحشة الفقد والنسيان، أبحث عن شجرة تورق مشاعر غير عدوانية، عن ذكريات مبهجة، عن كائنات تبدد وحشتي.

 

بصيرة

لا شمس، ولا قمر، لا بحر ولا نهر، لا وردة ولا سنبلة، لا جبل ولا سهل، لا وجه ولا جسد، لا شيء. لا شيء تطل عليه عيناك المطفأتان. ولدت بين نور وفراش لين، لكن الضوء كان ينسحب من حياتك، رويدا رويدا؛ يهرب من مقلتيك، هاربا إلى قلبك، ما تفقده أمامك تجده داخلك، كنت ترى ما لم نرَ، ببصيرة حادة، ونفاذ باهر. تسبقنا جميعا، تخبرنا بألوان ملابس أولادنا وفساتين البنات التي تبتاعها نساؤنا من الأسواق؛ تحذرنا من السير في بعض الدروب أوقاتا معينة، تصف لنا كائنات وحدتك، المخلوقات التي تداعبك، وتدخل معك في ألعاب لا تصل إليها مخيلتنا، تكبر، ونكبر معك، ننكمش إلى دواخلنا، وتنفتح أنت على العالم الرحب. أعاين مشهدا مفجعا، وقبل أن أحدثك عمّا جرى تفاجئني ببكائك، فأصمت، أعرف أنك أبصرت كل شيء قبلنا.

 

حب

الشاب الذي أحرجته نوبات تلعثمه، أمام الملامح الباهرة، والتناغم الذي ينسحب إلى كل تفصيلة في كيان تلك الجميلة، وهي تخطر بتؤدة، مثيرة حولها كل العناصر الدافعة إلى المحبة والوله، مخترقة انفعالات أولئك الذين يبحثون عن بطولات تراجيدية، وحكايات تسافر في الزمن. اهتز بشدة، وهو يواجه جمالا غير قابل للاستيعاب، لامرأة تهمي مع النسائم الحانية أثناء عبورها إلى اكتمالها الخالص. تصاعد الحب الكامن في الخلايا الغامضة، وبدأ ينمو لا مرئيا، في الهدأة والسكون، منسربا إلى قلبه، وأخذ يذوب أمام لمعة عينيها عندما تصطدم بعينيه، التي تنخفض سريعا، ليمضي ليالي وحدته منزويا، بمشاعر مقيدة.

الشاب. دبّ فيه الوهن حينما عرف أنها مهرة أرستقراطية، مستقرة في ملكوتها، بينما هو يسكن في خص صغير، شاهد على تاريخ من العوز، مبددا عمره في خوض طرقات ودروب بائسة، فذوى تماما، وراح يركض هاربا، وهي مذهولة، بعدما تقدمت إليه خطوات كافية، كي يفتح نوافذه المغلقة، واصل الهروب والدموع تفرّ من مقلتيه، تتطاير إلى الفراغ، وهو يجيش ببكاء العاشقين، متمزقا بين أضواء وظلال، تاركا وراءه كل شيء.

 

حالة

أكتب الآن نصا قصيرا، موجودا في ذهني منذ فترة، لكني تكاسلت عنه، تركته ينهض وحده في منتصف ليلة لامعة، كعادتي مع هذا النوع من القصص. فأنا هنا لا أفعل شيئا، فقط أكون قلما متحركا فوق الصفحة البيضاء، يخط وحيدا ما يتراءى له. هناك رجلان يتصارعان على امرأة حزينة، وهى لا تدري. أيضا، هناك امرأة لا تروض، تتسلل بطيئا لتقتنص واحدا منهما. في خلفية القصة أنثى مفعمة بنزوات متوترة، تعمل في قلب الظل كدليل محبة، لكن الصمت يتساقط في كل لحظة، والمشاهد المرتجاة تشحب، وتكاد تتوقف، ربما وثبة عميقة تذهب بالعناصر القليلة إلى الفراغ والعدم. إحساسي بالزمن يترهل في غياب أبطال هذه الحكاية، وإضرابهم عن المواصلة، وخجلي من العثور على ما يستحق الكتابة يجعلني أصر على المضي قدما في بناء حكاية أخرى مؤجلة، بعدما تبدل الليلة أحوالها، وتنعس الفراشات الهائمة.

 

على باب الله

ها أنت، تمضي وحيدا في الطرقات، كشبح يتوارى من الخجل وهو يخترق المدى، طاويا المسافات، لا تدري أسماء الدروب، ولا تنتبه إلى الوقت، ليلك مثل نهارك، سرك بينك وبين الله، لا تعرف غيره، هو الواحد، الأحد.

تمضي في الفلوات بسيطا ومتواريا. أجدك يوما على أعتاب وليّ، مستندا إلى جداره، مستغرقا في غيبوبة ووجد، تستعير ملامح ملاك كان يعبر بجوارك، ألمحك مبتسما، سيماؤك تسفر عن رضا لا نهائي، ولا تكون أنت أنت. أراك في المدن البعيدة، متوكئا على عصاك، تمشي متباطأ، لا يشاغلك شيء، لم أشاهد كسرة خبز بين أصابعك، ولم أرك تسأل الناس. كنت أراقبك أحيانا، أحاول الوصول إليك، علني أدرك السر، لكنك شعرت بي، وقفتني، وقلت مترفقا:

ماذا تريد يا واصلي.

كدت يومها أقع صريعا، مغشيا عليّ، فهذا لقب عائلتي، واسم جدي الأكبر، ننادى به في قريتنا، وبين أقاربنا.

يا أنت: كيف تحتمل البرد، كيف تحتمل القيظ، أين تهرب من المطر والسيول. أين تتوارى عن الأشياء، أين؟

كيف تمضي لامباليا، غير معنيّ بأن هناك بشرا، وحروبا، وعالما متخما بالقسوة والشر؟

يا أنت، يا أنا، كلانا صنع من الغيم، وتوارى خلف التاريخ، والمعنى، خلف الإشارات وقوانين السر.

 

حكمة الكاف

الكاف

كون وأكوان، وكن فيكون.

كائن يكتوي بنيران الجوى، مكتفيا بالنزر اليسير، يكفي نفسه ركاكة الكلام، وتعرجات القول، ولا ينتظر سوى فيوضات الكريم.

صعوبة امتلاك الزمن أربكت المتشككين.

 الكبريت لا يقع إلا في أيد حكيمة حتى لا يشتعل العالم.

الكبير يطوي كشحه عن الصغائر، ويعلن تفرده مشاركا في محاكمة المعنى عندما يستغلق عليه سؤال.

 الكل مهجورون.

كثيرون يتركون آثارهم على الماء، ينقشون بحمق يفوق العادة، ثم يركضون بعدها، وتعصف بهم الريح، لا شكل لهم ولا ذكريات، خطوهم الواهن على دفاتر التاريخ رهن الانكماش.

كأس المحبة لا يترك المتيمين سكارى كغيرهم، مفعمين ببكاء صامت، فقد أصبح ممكنا استعادة الحياة، عندما لا تخفي في قلبك مكنون سرك، وتطلع عليه الأقربين.

بح لمن اصطفيته بكلمة سحرية مختومة بالكاف.

قل له:

“أحبك”.

ينهض معها الأمل المتسلل من كوات صغيرة، المتكوّم داخلك كشعاع يرغمك على الامتثال، نافيا البروق الكارثية، التي تكفي لإرعاب قبائل شجاعة تسكن غابات روحك.

دينامية القلق المركب تبدد كينونة مهيضة، تتكئ إلى هاوية، منسوجة من الخرافات والتهاويل، وتدفع إلى استحضار الكبوات السابقة.

إنها حكمة الكاف.

 الكنز المطمور بين الضحك والبكاء في كل زمان.

 

النوارس

النوارس التي تأتي إلى مدينتي في أشهر معينة، قادمة من بلاد بعيدة لقضاء فصل الشتاء، أذهب إليها، أشاهدها وقلبي مفعم بالحنين، فأنا من مدينة غير ساحلية، لا تطل على بحر أو محيط، لكن بها نهر عظيم، تأوي إليه. أستقل زورقا صغيرا، أمر به على تجمعات هذه الكائنات القوية، التي تقطع آلاف الأميال في طيران متواصل، أجدها مجتمعة بشكل رائع فوق النافورة الشهيرة، التي تتوسط عرض النهر، ثمة جمال يضع المشهد في رونقه. مجموعة أخرى، تطفو فوق سطح الماء، تلتقط الأسماك الصغيرة، التي تصعد إلى الأعلى، دون ذاكرة وراثية تدفع عنها مخاطر الفناء. أتأمل هذه الطيور البيضاء، الغموض الكامن فيها، أناقتها البادية، كل شيء يبدو فريدا، باعثا على الدهشة. ماذا لو حكت لي عن رحلتها الطويلة، سعيها وراء النور والدفء، عن تلك الموانئ، والمدن، التي تستريح إليها من عناء السفر، لو استمعوا إليّ وأنا أتحدث عن طفولتي، أمانيّ المهدورة، ظلال الحزن التي ترقد في أعماقي وترفض المغادرة، عن ذلك الطفل الذي هجر العالم وسكن الكتب، وتفتنه الشاعرية التي تنطوي عليها الاشياء. ماذا لو أعارتني أجنحة، وحققت لي أمنية طالما راودتني منذ الصغر: أن أصير طائرا، أجوب العالم، أطوف هنا وهناك، دون أن تكون المسافات سرادقات متناثرة، هاربا من السأم، من تهشم صراخي في مرآة الأسئلة، أن أحدق، وأتأمل الأشياء جيدا، لا أضع يدي فوق عيني، أن أبني خلوة، أراقب من داخلها ما يفعله الولي، والعاشق، والمجذوب، أن أقف على الحافة، بين البرزخ والحد الرهيف، دون أن أحترق.

 

إناء فخاري

كنا قد أحضرناه معنا، ضمن أشياء كثيرة، جلبناها ونحن عائدون من المدينة الرابضة هناك، في أقصى الجنوب. جذبني إليه مظهره الجميل ونحن نتسكع للتسوق.

قالت زوجتي:

– إنه يصلح الطهو.

في المرة الأولى، وضعت الخضروات وقطع اللحم، ودسته في الفرن. بعد الوقت المحدد أحضرته، كان الأمر مفاجئا، درجة الغليان لم تفارق الإناء فوق المائدة، ظل على هذا النحو دون أن ينضج الطعام في داخله. في المرة الثانية لاح شيء غريب، كان الطعام مصبوغا باللون الأحمر، الدم يعطيه كاملا. فشعرت بالامتعاض وقررت التخلص منه.

بعد أيام قليلة، وعند خروجي من مسكني، وجدته أمامي، نظيفا لامعا، رفعته من فوق الأرض بنية حمله إلى أبعد مكان. فوجدته ثقيلا بشكل غير متوقع، لم أستطع حمله. عندما عدت في المساء لم أجده، فتناسيت الأمر، لكني فوجئت به موضوعا فوق المائدة مملوءا بماء معطر.

سألت زوجتي:

– من الذي أعاده؟

نظرت لي مستغربة.

– أنسيت. ألم تقل لي: ضعيه هنا، سنزرعه بالورد!

كنت متروكا في دهشتي، أتردد برغبة خجلة في المواصلة، طارت الأسئلة، وتبدى غموض شديد، حتى أيقظتني دقات متواصلة على الباب. عندما فتحت، وجدت صبية صغيرة، ابتسامتها ساحرة، تمد يدها بوردة فواحة، لونها فريد. همست برقة حزينة:

– ضع هذه بالإناء، إنه ترابي المدفون بالأعماق.

كانت كفها معلقة في الهواء، وصوتها يعزلني عن العالم، يركض بي إلى عصور بعيدة، موغلة في القدم، بينما الأشياء تغيب عن ناظري، وأنا أتقدم إلى عالم غريب.

 

شجرة

لوحة: يوسف عبدالكي
لوحة: يوسف عبدالكي

الأقل ترابطا، والأكثر احتداما، الذي لا يمكن العثور على مثيل له، فكل أشيائه عديمة النفع على وجه الإجمال، المنكود، ذو الذاكرة المثقوبة، الذي تركني وحدي، فريسة الغضب والجنون، مقيدا بالسلاسل في باطن شجرة عتيقة، بعدما اجتزنا طريقا تتشابك فيه الأغصان الكثيفة، وتتناثر الأصوات كأنها زجاج يتهشم فوق أرض صخرية. انفجارات تأتي من بعيد، ونداءات مجهولة تتهامس على نحو غريب. كنت أتحمل من أجل الوصول إلى هذه النقطة المستحيلة التي رآها في منامه. وحدثني عنها بأنفاس متقطعة، وملامح مسحورة:

– إنها شجرة لا تظهر إلا ليلة واحدة في العام ثم تختفي في صباح اليوم التالي مع انقشاع الظلام.

– ثم ماذا؟ قلت.

أجابني قبل أن يدخل في تحولاته:

– تحوي السير المهملة.

– ثم ماذا؟

– ما تجاهله المؤرخون، وتغاضوا عنهْ. ما لم يدوّن عن عمد. أصول الكتب الكبرى التي تحمل في باطنها كل الأسرار. تلك الكتب التي تم إحراقها أو إخفائها.

كنت أطالع وجها لم أعرفهْ، نبرات غريبة ونظرات مقلقة.

واصل:

– لقد أخبرتك بكل شيء. إذا لم نستطع الوصول الليلة فلن نصل أبدا.

شغلتني فكرة المغامرةْ حركت في داخلي ولعي بالمعرفة. هناك، وبعد رحلة شاقة. واختراق طقس حلمي. وصلنا إلى الباب المنحوت بالشجرة. عندما ولجنا إلى الداخل لم أشعر بالعالم الذي تركته خلفي، كنت أعتقد أني سأتحرك داخل تجويف مظلم، لكني وجدت نفسي داخل حديقة مضيئة، لا يوجد بها بشر. في لحظة خاطفة انتبهت إليه وهو يخاطب نفسه منبهرا:

– ها هو الصندوق، كما رأيته تماما، في داخله كل ما سيربك الإنسانية، ويعيد إنتاج كل شيء على نحو مختلف.

– هكذا ببساطة؟ قلت ساخرا.

– نعم.

أجابني على نحو أكثر سخرية. ثم فاجأني بضربة قوية فوق رأسي.

بين ذهولي وآلمي، وعدم قدرتي على التحرك، قام بتقييدي بمهارة غريبة عليه. رحت أنظر إليه مرتعبا وهو يحمل غنيمته، مغادرا المكان.

– لا تتركني. رجوته.

رد بنبرة جادة، كأنه شخص لا أعرفه:

– ساعات قليلة وتختفي هذه الشجرة، ستذهب إلى عالم أكثر بهاء، مفعما بالخواص النقية.

كان يحدثني وهو يتحرك في طوايا النسيان، تاركا وراءه أشياء لم أعد أتذكر عنها شيء.

 

أعظم متسولة في التاريخ

كانا يسيران أمامي، المرأة وطفلتها الصغيرة، تتهاديان بطيئا. المرأة بجلبابها الأسود، والشال المطروح إلى الوراء. الطفلة بجلباب مهترئ، وضفيرتاها منطلقتان خلفها. كنت هناك، أسير وراءهما، أتأمل كف السيدة المتجهة نحو السماء، وهي تقترب من المارة، لا تتكلم، لا تطلب شيئا. كان الشارع متسعا، رحيبا، مكشوف المدى وأنا في طريقي لزيارة مقام الطاهرة زينب، سيدتي التي أحن إليها كلما ضاقت بي الأرض.

اقتربت من السيدة التي تجر ابنتها، دفعني فضول قاهر، لا أدري كنهه، نظرت إليها، فتعثرت في خجلها، ذابت في حرج مميت، وكادت تسقط فوق الأرض.

حدقت إلى الطفلة، وجدتها جميلة جدا، مضيئة ومبتسمة، أطلت التحديق، وجدتها ولدا.

المرأة التي روعها الخجل كانت أمي.

الطفلة الصغيرة كانت أنا. ذلك الطفل الذي جاء متأخرا، بعد عدد من الأطفال منذورين للموت. كان عبق الضريح يتضوع من بعيد وتفعمني رائحته الزكية بعطر مقدس.

شرعت أمّي تسرع الخطى، وتأخذ معها طفولتي المشحونة بالألم، رحت ألهث وراءهما، حائرا، معذبا، مستحضرا ماضيّ الموغل في القدم، حتى توقفت في النهاية، وتركت لي الطفل، تتدلى من رقبته قلادة من نقود فضية مخرومة ولامعة.

قالت وهي تداري خجلا رقيقا:

– خذه معك. وانتبه إليه. وداوم على زيارة ” السيدة”.

كانت تشير إلى المقام، قبل أن تختفي عن ناظري.

 

إشارات

الطعام كان شهيا وأنا أمضغه بتمهل، شاردا كعادتي وراء حكايات متصارعة تدور في ذهني وتلغي كل المرئيات حولي، مع ذلك، لمحته وهو يلج المكان مترددا، حذرا. ثم وهو يجلس بهدوء إلى إحدى الموائد، طنين الأفكار يشاغلني، ويطغى على صوت الموسيقى المتصاعد كأزيز جنادب لا تعرف التوقف.

كنت وحيدا، متروكا في عزلتي، أحاول بصعوبة الانتهاء من طعامي حين بدأت معركة صامتة في التشكل، في الركن الذي انتهى إليه الرجل ساقطا على كرسيه، كان يعتذر لكائن خفي، كأنما يسند عليه نظرته حتى يتفرغ للحياة. حضر أحد العاملين، وقام بجذبه، محاولا جره إلى الخارج، لكنه لم يستطع.

– جائع.

نطق هامسا، متحرجا.

كان يقارب الانهيار، ويده ترتجف بشدة.

تحركت إلى هناك.

– دعه.

قلت وأنا أخلصه من يدي العامل. ثم دعوته إلى مائدتي.

– اطلب ما تشاء.

مسح المكان بنظرة سريعة.

– أمامي ما يكفيني. قال.

في هذه الأثناء، حضر مدير المطعم، قدم إليّ اعتذارا رتيبا، راجيا السماح له بطرده.

رفضت بشدة.

– أحضر له طعاما مماثلا.

أمام إصراري. انصرف حانقا، كاظما غيظه بصعوبة.

تعمدت الجلوس مع الرجل حتى ينهي طعامه. دون أن يضايقه أحد..

بعد عدة سنوات، فوجئت به، جالسا إلى جواري، في طائرة متجهة إلى عاصمة كبرى. وجدتني أتطلع إلى برجوازي صغير، يتحدث بلكنة أرستقراطية معجونة بعديد من اللغات، أخذت أصغي إليه وهو يتذكر كل شيء بملامح مظللة بمعان مربكة، لا أدري أين تسربت تلك الغيوم، ونظرات التألم التي كانت حبيسة لفتاته السابقة.

خاطبني.

– تجرأت على اقتحام المطعم عندما رأيتك بالداخل. كنت أعرف أنك ستنهي المشكلة وتدعوني إلى الطعام.

صمت قليلا ثم أضاف.

– غدا ينتظرك حظ طيب.

في صالة الخروج، وبعد أن هبطنا من الطائرة، أومأ إليّ بابتسامة غامضة قبل أن يعبر البوابة الكبرى ويختفي في زحام العالم.

 

رائحة البن

خوفا من الإكثار في تناول فناجين القهوة، تلك العادة التي تلازمني منذ صباي، إلى جانب عادات أخرى تعطيني إدراكا لقيمة الأشياء، وتؤكد ارتباطا وثيقا بأفكاري الذاتية التي تضرب في كل اتجاه، على نحو فائق التركيز يحتفظ بالعابر والسري، أقوم بوضع علبة البن منزوعة الغطاء فوق مكتبي، فيتصاعد إلى أنفي عبق رائحته القوية، مضمخا الغرفة بتوابله المخلوطة بمقادير معينة، هنا أكتب بمزاج رائق ومتمرد، أصطاد من هذا المزيج إيعازات وأفكار مثقلة، يبدد البن مفعول وطأتها.

 

ديالوج

حتى وقت قريب، كنت أراها الأكثر توقدا ونفاذا إلى الأشياء، رغم ميلها إلى الصمت، وعدم بوحها بآرائها تجاه من يرددون على مسامعها بطولاتهم الزائفة. كانت تتجاهل هذا العالم، لا تنبس ببنت شفة، مراعاة للياقة، وهروبا من الضجر.

يقضي أحدهم أعواما على باب مدينتها، مسلحا بكنوز وثروات هائلة، ينتظر إشارة ما، لكنه في النهاية يعود خالي الوفاض، جريحا، مستسلما.

كنت متحيرا حيال نظراتها وهي ترمق الجميع غير مبالية، أشعر أنها قلعة حصينة، يصعب اختراقها، أريد رؤية وجهها خلال الظلال، وهو يطل من بين السحب الحارسة. دعوتها يوما إلى أحد الأماكن الهادئة.

– حدثيني عن نفسك، عن سر اهتمام الجميع بك!

رشفت ببطء من قهوتها، وظلت تنظر إلى الفنجان سارحة، كأنها تبحث عن شيء ما، موغلة في صمتها، تحاول القبض على أفكار شاردة تعبر الأثير في هذه اللحظة.

– استمع. لم يعد الحب صرحا من صروح الزمن الحاضر، والعناصر الحانية لم تعد تتسكع في ممرات القلب، رغبات فقط، تركض وراء الأنثى، تعريها بوقاحة خالصة، وفضول شرس، لا يمكن الحد من تطلعاته الأثمة.

 – نعم.

– هناك كبرياء تسري داخل كل سيدة، لا تستطيع صد تيارها المتدفق، إنها تبحث عمّا يستر الجسد، ويظلله بأمان آسر، وإحساس إنساني دقيق.

كانت الألفاظ تخرج منها مشحونة بسحر مذهل، وهى تبدي قليلا من التمهل، قبل أن تحلق وتنشر مسك الكلام.

– أرجوك، استمري.

قلت لها، مخافة أن يفتر اللقاء، وتتوقف عن الاسترسال.

واصلت، كأنها لا تراني:

– هناك أيضا نظرات ذات قيمة ثمينة، قرينة الحنان، تصدر عن عين صادقة، تجعل الأنثى تنخرط في صيغ مثالية، تشعر بأن هناك ملاكا يحرسها، يبعث الطمأنينة في روحها، ويرفع عنها أحروجة الجسد، والغرام المبتذل. ثمة استطيقا إيروسية، تظلل همساتها الجادة، لفتاتها، سكناتها، أدائها النرجسي المفعم بهارمونية مذهلة. كنت سعيدا بالجلوس إليها وهى تستفيض في حديثها الراقي، نازعة توهمات لا حصر لها، بعدد من الملاحظات الذكية، كانت ترفع جبينها، بإيعاز من منبّه داخلي يضفي عليها ظلا ساحرا، تمضي قدما في هذا السكون، حيث خلت الشوارع من الصخب وإزعاجات البشر، تحاول استخراج المعنى من اللاشيء، متجاوزة كبواتها السابقة بانفعالات متعالية، حتى تمنيت ألا تنتهي.

[ad_2]

Source link

من sanaanow