[ad_1]

في شتاء بارد قرأت مجلدات “ألف ليلة وليلة”. كان عمري 13 عاما. ذهبت إلى مكتبة كركوك المركزية وبدأت باستعارة المجلدات ومطالعة حكاياتها. لا شك أنها شدتني في حينها، وإلا كان من الصعب على صبي الاستمرار بمطالعة كل تلك المجلدات.

تصفَّحتُ مجلداً من “ألف ليلة وليلة” مؤخراً. بدأتُ القراءة وقدَّرت أنها ستكون غير جذابة لصبيان أو شباب من الممكن أن يهتموا بمطالعتها. بعد كل ما يشاهدونه من مسلسلات رسوم متحركة، ومع تعايشهم مع واقع تسود فيه ألعاب الفيديو، سيكون من الصعب عليهم التجاوب مع السرد القصصي بلغة تعود ربما لألف عام. عندما كتب، أو جمع، عبدالله بن المقفع تلك الحكايات، صاغها لمستمع من ذاك الزمان. بمروري على قائمة الحكايات، استدعتْ ذاكرتي الكثير منها، واعتقد أنها في العموم حكايات طريفة وممتعة. المشكلة في أسلوب السرد.

مشكلة السرد هذه ليست حصراً في “ألف ليلة وليلة”. جرب أن تقرأ رواية “أوليفر تويست” بالإنجليزية. الروائي الإنجليزي تشارلز ديكينز نشر روايته عام 1838، أي أنها بمعايير الأدب الحديث كُتبت بالأمس. لغة سرد جميلة لكنها ثقيلة على قارئ هذه الأيام. هذا لا يعني أن القارئ الآن “أخف” لغويا ولا يدرك أهمية بلاغة النصوص. أقول العكس. فالقارئ اليوم متبحرٌ من دون أن يدرك حجم المعرفة التي يختزنها. كم المعلومات والنصوص والصور والمشاهد والأفلام والمسلسلات التي مرَّ عليها قارئ عادي اليوم، تفوق أي شي كان يمكن أن يتخيله قارئ من قرن مضى. لكنه قارئ لا يحب التعثر بسرد كتب لجده أو حتى جد جده!

أذكر أني طالعت نسخة بالعربية لرواية “أوليفر تويست”. كانت مبسطة وسلسة. هناك من أدرك مبكراً في عالمنا أن ثمة مهمة لتيسير النص. ربما كان يستهدف الصبيان والشباب. لكن الفكرة كانت قائمة.

خلال العقود الماضية، انتبهت إلى أن فكرة تيسير النص أخذت مناحي كثيرة. شاهدت اقتباسات ذكية لرواية “أوليفر تويست” سينمائياً ودرامياً للتلفزيون. كل مرة، يذهب الكاتب/السيناريست إلى أبعاد جديدة. حافظ على روح الرواية، لكن الشخصيات في الرواية تطورت بشكل كبير. في واحدة من آخر الاقتباسات الدرامية، تحس أنك في لندن المعاصرة بشخوصها وتنوعها العرقي. ما عادت الشخصيات ساذجة تجسد الشر أو الطيبة بالمطلق. هناك أوجه متعددة لكل شخصية أعيد تركيبها لمشاهد سيضحك لو شاهد غير ذلك.

رواية “أوليفر تويست” تبقى بأفق محدود وشخصيات معدودة. لو ذهبنا إلى عالم دراما التلفزيون المزدهرة الآن بسبب البث التدفقي، سنجد أن الكتّاب أطلقوا العنان لإعادة تجسيد ليس فقط العالم السردي وحسب، بل حتى عالم الروايات المصورة الكوميكس.

كنت أحرص على اقتناء مجلات الكوميكس. جذبتني شخصية “الرجل الوطواط”. كنت أفضل مجلات “الوطواط” على مجلات “سوبرمان”. البطولات الخارقة ليست من ضمن قائمة المفضلات عندي. “الوطواط” كان تحرياً ومغامراً وشخصية غامضة محاطة بشخصيات من عالم الجريمة في مدينة تحاكي نيويورك اسمها “غوثام”. كانت شخصية “الجوكر” أبرزها، لكن الحكايات ثرية بمغامرات أبطالها الأشرار “البطريق” و”رأس الغول” و”ريدلر-رجل الألغاز” و”المرأة القطة”، والأخيار “الفريد” خادم الرجل الوطواط الدؤوب والمفوض “غوردون” رئيس الشرطة. عالم فانتازيا مذهل وهو مصور أمامك. كبرت وطويت صفحة “الوطواط” إلا حرصي على الذهاب إلى السينما لمشاهدة سلسلة الأفلام التي عادت إلى دائرة الاهتمام منذ أواخر الثمانينات.

أعاد كتاب السيناريو النظر في شخصيات أفلام الوطواط. في البداية، لم يخرجوا كثيرا عن الشخصيات الأصلية. لكن تعقيد شخصية “الجوكر” ربما استفز جيلاً جديداً من الكتاب. بدأت الشخصيات تتطور في الأفلام وما عادت سطحية. هذا ربما ما مهد لمرحلة جديدة من إعادة النظر في الشخصيات والحكايات.

عام 2014، جاء الموسم الأول من مسلسل “غوثام”. أعاد كتاب السيناريو رواية الولادة لكل الشخصيات في عالم “الوطواط”، بما فيها تشكيل شخصية “الرجل الوطواط” نفسه. كانت مغامرة درامية حقيقية، لأن الكتاب لا يعملون على خلفية من صورة مشكلة من شخصيات حفرت عميقاً في ذاكرة أجيال، بل أيضا في تنافس مع سلسلة الأفلام. قلق مدينة غوثام، الذي هو في أوجه منه قلق مدينة نيويورك بعد هجمات سبتمبر 2001، كان حاضرا ويتطور. مدينة مستلبة في عالم الجريمة الذي لا يتردد في تسخير الإرهاب لتحقيق غاياته. مع نهاية الموسم الخامس (2021) شهدنا ولادة شخصية “الرجل الوطواط” ونحن ننتظر المواسم القادمة. التيسير البصري المبني على تيسير السرد الأصلي بلغ ذروة جديدة.

ماذا نفعل إذا بحكايات “ألف ليلة وليلة”؟ برأيي أن أدباءنا بحاجة إلى إطلالة على تلك الحكايات وإعادة كتابتها لقارئ عربي شاب ابن اليوم. لا يوجد ما يمنع من إجراء هذا التيسير السردي، ثم البناء عليه في عالم “ألف ليلة وليلة”، وغيرها من التراث الأدبي العربي. بالتأكيد، لا أقصد تيسيراً بصريا مثل ذلك الذي يقدم من إنتاج عربي تتمنى لو أنه لم يتم. ثمة تجارب عالمية أشرت إلى بعضها، لكن العالم يعيد النظر بأدبه ويعيد تقديمه لئلا يضيع ويصبح تراثا فقط. هناك شخصية “دون كيخوت” متغيرة صالحة لأزمان متغيرة.

[ad_2]

Source link

من sanaanow