[ad_1]

كانت ممرضة الشاعر قبل أن تصبح ملهمته ورفيقة سنواته الأخيرة

شوقي بزيع

«ماتيلدا، اسم حجر أو نبتة أو نبيذ
في صيف اسمكِ تتفجر حبات الليمون
على هذا الاسم ترحل راكضة سفن الغابات
آه لهذا الاسم المكتشَف تحت زهرة ليلكٍ أرجوانية
اسم شبيه بمدخل نفقٍ مجهول
متصلٍ خفية بجميع طيوب العالم».

بهذه الأبيات المفعمة بالرقة والافتتان يستهل الشاعر التشيلي الشهير بابلو نيرودا، ديوانه الشعري «مائة قصيدة حب»، الذي يهديه لـ«الفؤوس وحب ماتيلدا والقرنفل»، محملاً إياه كل ما جاشت به نفسه من مشاعر إزاء المرأة التي رأى فيها نسخة رمزية مصغرة عن وطنه الأم، وواحدة من اللقى الثمينة التي أتيح له أن يزيح النقاب عن جمالها المخبوء في مناجمه المعتمة.
على أن الصورة الزاهية لذلك الحب، كما لغيره من علاقات نيرودا العاطفية لن يعثر عليها القارئ في سيرته النثرية، التي نشرها الشاعر تحت عنوان «أعترف أنني قد عشت»، بل في قصائده ودواوينه ونتاجه الشعري الوافر. والواقع أن سيرة نيرودا الذاتية، هي واحدة من أفضل السير وأكثرها تشويقاً، لما تتمتع به من صدق تعبيري وجماليات أسلوبية تلقائية واحتفاء عارم بالحياة. فعبر ما يزيد عن المئات الخمس من الصفحات نتعرف نحن القراء على الطفولة الغنية ذات البعد المشهدي الشاسع، لصاحب «حجارة تشيلي» الذي ولد في قرية بارال مطالع القرن الفائت، والذي قدر له أن يفقد أمه روسا باسولاتو بعد أسابيع معدودة من ولادته، ليترعرع في عهدة أب بسيط يعمل في سكة الحديد، وزوجة أب بالغة الحنو. وحيث لم يُظهر الأب أي حماس يُذكر إزاء موهبة ابنه الشعرية المبكرة، فقد اختار ريكاردو نيفتالي رييس، أن يتخلى عن اسمه الأصلي لينشر بكورته الشعرية تحت اسم بابلو نيرودا، الذي سيلازمه بعد ذلك إلى الأبد. وليس بالأمر المستغرب أن يُفرد الشاعر صفحات كثيرة من مذكراته للتحدث عن تلك العوالم الساحرة التي تبلورت في كنفها موهبته الفريدة، حيث تتشابك القمم الثلجية العاصفة مع حمم البراكين، وسط حقول الطين المتشققة، و«قطرات المطر التي فُصدت من الشرايين، والغابة الطولية الهائلة التي تنتهي عند أطرافها حدود الكوكب السيار». ومع ذلك فإن الشاعر المسكون بالقلق والفضول ورغبة التعرف إلى العالم، لم يتوان إثر تعيينه قنصلاً في السلك الدبلوماسي، عن السفر إلى الأطراف الشرقية للأرض، كقنصل لبلاده في كل من بورما وسيلان وسنغافورة، قبل أن يتم تعيينه في بيونس آيرس في وقت لاحق. على أن من حق القارئ أن يتساءل عن السبب الفعلي الذي يقف وراء العدد القليل من الصفحات التي يخصصها نيرودا للحديث عن حياته الزوجية والعاطفية، في حين أن الحيز الأكبر من السيرة قد توزع بين الحديث عن النشأة وأدب الرحلات والعمل الدبلوماسي والانتماء العقائدي وملحمة الهروب من التشيلي في أزمنة الاستبداد، إضافة إلى كل ما يتعلق بالشعر والثقافة والفن في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين. لا بل إن الشاعر المعروف بنزوعه الشهواني وتعلقه بالحياة، آثر أن يخصص لوصف الأطعمة والأطباق التي تذوقها عبر العالم، أضعاف ما خصصه من الصفحات للحديث عن زوجاته الثلاث ومغامراته العاطفية الكثيرة.
وفي اعتقادي أن الأمر ليس عائداً إلى خجل الشاعر الفطري الذي خصص للحديث عنه صفحات عدة من سيرته، مشيراً إلى أنه ظل لفترة من حياته يعاني من الارتباك واحمرار الوجه في حضور النساء، لأنه كان قد تخلص من تلك العقدة لدى كتابته لمذكراته، بل إلى كون السيرة قد كُتبت في ظل الصعود المتعاظم للآيديولوجيا الماركسية، حيث اعتبر الحديث عن الحب والهموم الشخصية، في ظل أوضاع التشيلي المتفاقمة، والاستقطاب العقائدي الحاد بين طرفي العالم، نوعاً من «الميوعة» أو الترف البورجوازي الزائد. وهو ما ترجمه صاحب «إسبانيا في القلب» بشكل واضح عبر رده على الذين يطالبونه بالإكثار من شعر الحب ووصف الطبيعة، بالقول «تعالوا انظروا الدم في الشوارع »، أو قوله في مكان آخر:
عندما أفتح نافذتي في الصباح
فأرى قتيلاً وأرى وردة
أليس من المخجل أن أتجاهل القتيل وأكتب عن الوردة؟

أما السبب الآخر لتقشف نيرودا في الإفصاح السردي عن حياته العاطفية، فيعود إلى كونه قد ترك تلك المهمة الحساسة في عهدة شعره المتفرد، الذي يمتلك، بوصفه لغة الإشارة والإيماء، أكثر من النثر القدرة على التعبير عن فوراناته الداخلية ومشاعره المحتدمة. وهو ما أكدته على نحو جلي، مجموعات شديدة التميز، من مثل «عشرون قصيدة حب وقصيدة يائسة» و«أغاني القبطان» و«مائة قصيدة حب» و«سيف اللهب» وغيرها.
ومع ذلك، فإن نيرودا في سيرته لم يتوان عن إطلاعنا، وبطرافة لافتة، على بعض صولاته الغرامية العابرة، من مثل علاقته بخوسيه بليس التي التقى بها في بورما، ثم أغرمت به إلى حد مطاردته بالمسدس وتهديده بالقتل، بعد أن ساورتها الشكوك بخيانته لها، أو مثل الشاعرة الشابة التي التقاها في بيونس أيرس أثناء سهرة عامرة، وبحضور غارسيا لوركا، قبل أن يستدرجها إلى أعلى المبنى طالباً من هذا الأخير أن يتولى حراسة ذلك اللقاء الساخن. كما تصل روح الدعابة عند الشاعر إلى ذروتها، لدى حديثه عن المرأة التي التقاها في سنغافورة، ثم طلب منها أن تهديه قطعة من ملابسها ممهورة بتوقيعها الشخصي. كما أن نيرودا، الذي اضطر إلى بيع بذلته وساعة يده لكي يدفع لناشره الجشع كلفة مجموعته الأولى «شفقيات»، يعترف لدى سؤاله عن الملهمة الحقيقية لديوانه الثاني «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» بأنه مدين في هذا الديوان لملهمات ثلاث، تداخلت وجوههن الغضة مع اللوحات المتداخلة للطبيعة التشيلية ذات الجمال الأخاذ.
يقر نيرودا في سيرته بأن زواجه الأول من ماريا أغينار، الهولندية المقيمة في جاوا الإندونيسية، كان ناجماً عن شعوره الداهم بالوحدة لدى عمله قنصلاً لبلاده في الملايو، وفي محاولة مخاتلة لتلافي الإساءة المباشرة إلى زوجته، ينسب إلى كاتبة سيرته مارغريتا أغيرا قولها عن تلك المرأة «إن ما لم تستطع تعلمه خلال وجودهما معاً لم يقتصر على اللغة الإسبانية وحدها». ثم تضيف قائلة: «كانت طويلة جداً وبطيئة ومتكلفة الرصانة». ومع أن نيرودا الذي وضع بعد سنوات قليلة حداً نهائياً لهذا الزواج البائس، لم يشر في مذكراته إلى أي أمر يتعلق بحمْل زوجته أو إنجابها، إلا أن ذلك لم يمنع البروفسور التشيلي ديفيد سخلدلوفسي من التأكيد قبل سنوات قليلة، على أن أغينار أنجبت منه طفلة مريضة أسمياها مالفا، لم يعترف بها الشاعر بسبب إعاقتها وتركها مع والدتها إلى مصير مجهول. وهو الزعم الذي استندت إليه الكاتبة الهولندية هاخر بيترز في تأليفها لروايتها «مالفا» التي تحمل اسم الطفلة، والتي وفر لها موضوعها الصادم وغير المتوقع، الكثير من الرواج وذيوع الصيت.
وفي منتصف الأربعينات يلتقي نيرودا، أثناء وجوده في المكسيك، بالرسامة الأرجنتينية ديليا كاريل، التي شده إليها التزامها العقائدي وسعة ثقافتها، فيقرر الارتباط بها رغم أنها تكبره بخمسة عشر عاماً. وإذ لم يكن مقدراً للزواج الجديد أن يجد له مآلات مختلفة عن سابقه، حيث الأول أفسده التسرع الناجم عن الشعور بالوحشة، والثاني أفسدته برودة العاطفة «المعقلنة»، يتعرف الشاعر عام 1946، وأثناء حضوره حفلاً موسيقياً في الهواء الطلق، إلى مواطنته التشيلية ماتيلدا أوروتيا، ليتذوق متأخراً طعم الحب الحقيقي، ويخوض بعيداً عن ناظري زوجته الثانية، مغامرة عاطفية عاصفة نمت في كنف الخفاء لسنوات عدة، قبل أن تتكلل بزواجٍ ناجح استمر هذه المرة حتى نهاية حياته.
ولعل الرسائل الكثيرة التي تبادلها العاشقان، والتي تم جمعها في إسبانيا لتصدر قبل سنوات في كتاب مستقل، هي شاهد الإثبات الأصدق على أن ماتيلدا أوروتيا هي، من بين الكثيرات اللواتي عرفهن الشاعر الحائز على جائزة نوبل، المرأة الوحيدة التي أحبها بعمق، والتي اخترقت شغاف قلبه. ومع أن بعض متعقبي حياة أوروتيا من الكتاب والمهتمين، يشيرون إلى أنها كانت مجرد مغنية عادية في المسارح الليلية، وصولاً إلى القول إنها كانت تعمل في شبكة للدعارة وبعيدة كل البعد عن العقيدة الشيوعية، فإن الجميع يؤكدون على أن عمها الشيوعي هو الذي رتب لقاءها بنيرودا، مقترحاً أن تكون ممرضته وراعيته الصحية، قبل أن تتحول العلاقة مع الوقت إلى حب جارف. والأرجح أن بابلو رغم تفهمه النسبي لماضي ماتيلدا المرتبط بعالم الليل والحافل بالمغامرات، لم ينجح تماماً في كبت مشاعر الغيرة التي كانت تتأجج في داخله، وبخاصة في المراحل الأولى من العلاقة، حيث لم يكونا يلتقيان إلا لماماً. لذلك فهو لا يتوانى خلال فترات انقطاعهما القسري عن أن يكتب لها حانقاً: «أنا تعِب من الخيانات، هذه هي ماتيلدا الحقيقية التي تتنزه مع صديقها الصغير على الشاطئ الأزرق، وتنسانا.
أريد معرفة كل شيء، وسأتحقق من ذلك بأي حال».
لكن نيرودا المتعب من الخيانات، كما يقول، لم يتورع عن إقامة علاقة غرامية مشبوبة مع إليسيا أوروتيا، ابنة أخ ماتيلدا، وفق ما أورده الكاتب الأميركي أنريكي لافوركادي في كتابه «نيرودا في بلاد العجائب»، مضيفاً أن الزوجة المصدومة، عمدت إلى طرد الفتاة الشابة بعد اكتشافها لما يحدث من وراء ظهرها. ومع أن إليسيا لم تنف أو تؤكد علاقتها بزوج عمتها، فقد تم العثور لاحقاً على العديد من الرسائل التي تكشف بوضوح عن طبيعة علاقتها بالشاعر الكهل الذي تخاطبه بالقول «حبيبي بابلو.
أقبل جسدك الحبيب، أنا إليسيا التي تحبك».
وسواء كانت هذه المغامرة الصادمة قد حدثت بالفعل، أم هي محض رواية مختلقة بهدف الإساءة إلى صورة الشاعر الزاهية، فإن علاقة الشاعر بزوجته لم تتعرض للاهتزاز والتصدع، بل حافظت على ثباتها ونوهجها على امتداد حياتهما المشتركة، خصوصاً أن الزوجين المتحابين ظلا يجوبان جنباً إلى جنب بلدان العالم وأمصاره ومنافيه. ولأن الحب، كما الشعر، يحتاج لكي لا يخبو أواره إلى مسرح ملائم، فقد قرر الحبيبان أن يبنيا عشهما الزوجي فوق مرتفع ساحر يطل على المحيط الهادئ في إيسلا نيغرا، حيث سيقدر للشاعر أن يكون قريباً من المناجم الخام لقريحته المتوقدة، وأن ينأى بحبه في الآن ذاته عن شرور العالم ومنغصاته، بعيداً عن «زحام المدينة العصبية ووجود الآخرين المعقد»، على حد تعبيره الحرفي.
ورغم أن منزل الزوجين الأنيق والباذخ، قد تعرض للدمار الجزئي بفعل إحدى الهزات الأرضية العنيفة، فقد أمن نيرودا بأن الحب والشعر قادران، وسط الزجاج المهشم والتشققات العميقة للجدران، أن يعيدا لحياتهما الصعبة البهجة والدفء والألفة الهانئة. إلا أن هاتين البهجة والألفة لم تدوما طويلاً، بل تهشمتا بشكل كامل تحت سنابك الانقلاب العسكري الذي قاده بينوشيه عام 1973، مطيحاً بنظام الحكم القائم وبرئيسه المنتخب سلفادور أليندي، كما بالبقية الباقية من أحلام نيرودا، الذي رفع راية استسلامه بعد أربعين يوماً من مقتل صديقه الرئيس، والذي يرجح الكثيرون بأن موته لم يكن بفعل المرض وحده، بل بفعل جرعة مسمومة من الدواء. أما طلب ماتيلدا بأن تدفن إلى جانبه حين تأزف ساعة رحيلها عن العالم، فقد بدا من بعض وجوهه محصلة طبيعية لرغبة كل منهما في الانصهار بالآخر في الحياة كما في الموت، وترجمة مؤثرة لقوله في إحدى القصائد:
ماتيلدا، يا حبيبتي، دعي شفتيك منفرجتين
لأنه بهذه الطريقة يمكن لقبلتك الأخيرة
أن تتبعني في الموت
سأموت معانقاً عنقود جسدك التائه
وحين ستتلقى الأرض عناقنا هذا
سنمضي متحدين في موت واحد
وفي قبلة أبدية




[ad_2]

Source link

من sanaanow