8ihwxoie

نحنُ قومٌ مِتنا وذلك شرطٌ “”” في هوانا فلييئسِ الأحياءُ

لقد كان ظهور الشعر الصوفي في أدبنا العربي معاصراً لظهور التصوف ذاته. فقد عبر أوائل التصوف عن أنفسهم، وطرقهم، وحبهم الإلهي شهراً، كما لو كانوا قد اختاروا هذا الفن الأدبي الرفيع حتى يكون وسيلتهم في نشر التصوف وأصوله. ومنذ فجر التصوف وحتى اليوم، يتخذ الصوفية من الشعر قالباً للتعبير عن المحبة التي تعني عندهم طريق الوصول إلى الله تعالى.


وقبل أن نتحدث عن هذا اللون من الشعر الصوفي وخصائصه ، يجدر بنا أن نعرف في البداية معنى التصوف نفسه.

لقد عرف التصوف على أنه فلسفة المسلمين، علمهم في الأخلاق، كما قال آخرون إنه منطق المسلمين، وفي تحديد معنى كلمة “التصوف” يطالعنا أكثر من رأي وتفسير، فهناك من يقول إن كلمة التصوف مأخوذة من كلمة “صوفيا” اليونانية، ومعناها، الحكمة.

وهناك من يقول أن الكلمة منسوبة إلى لبس الصوف الخشن الذي تعود الصوفية لبسه منذ القدم، وهناك من يقول هي نسبة إلى قبيلة “صوفة” التي كانت منقطعة لخدمة الكعبة، وهناك من يقول: إن الكلمة نسبة إلى “الصفة” وهي مكان بآخر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك من يقول، إن الكلمة نسبة إلى الصفاء والمصافاة.

وهناك من يقول غير ذلك من الآراء والتفاسير، ومهما كان القول والرأي فإن علماء الأخلاق والتهذيب الروحي، يقولون ، إن حقيقة التصوف الكاملة الفاضلة هي مرتبة الإحسان التي يفسرها عليه الصلاة والسلام في حديثه المشهور بقوله، “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

ومعنى هذا أن التصوف الصادق هو الذي يقوم على إخلاص العبادة لله، بلا تصنع ولا تكلف، ودون رياء أو نفاق، وذلك يقتضي أن يكون الإنسان مسلماً حقاً، وأن يكون مؤمناً صدقا، ويحسن الجمع بين إسلامه وإيمانه، ويزينهما بإحسانه وإتقانه، عن طريق المراقبة لله، والمحاسبة للنفس، وقبل أن يصير الحساب إلى غيرها، كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيأوا للعرض الأكبر، يوم تعرضون على ربكم لا تخفى منكم خافية”.

وهناك اصطلاحات صوفية تشير إلى هذه المعاني، كالصفاء وهو عند الصوفية يقصد به التوحيد الخالص الذي أقرت به كل الأرواح قبل خلق الأجساد.
وهناك التواضع وهو واحد من أهم الأخلاق الصوفية التي يتحلى بها المبتدئ والواصل على السواء، وهو علاج لما جبلت عليه النفس من الكبر.

وهناك رموز صوفية كالخمر مثلاً ويقصد بها أنوار الله والسكر ويقصد به سكر الأرواح. وهناك ما يعرف عند الصوفية بتجلي الأسماء الإلهية، وهي حالة من الترقي الصوفي تكون بعد الفناء التام.
وينبغي أن نلاحظ أن التصوف ليس همهمات ولا تمتمات، وليس خروجاً على شريعة الله في قليل أو كثير، فالتصوف الصحيح أساسه التقيد بالقرآن والسنة، والخضوع لأوامر الله وأحكامه، وكل من خرج على حكم الله وأمره، فدعواه أنه متصوف دعوى باطلة، لا يقرها شرع ولا عقل.

والتصوف ليس بالمظاهر والأشكال، ولا بلبس المرقعات أو تعليق المسابح، بل هو أن يعمر الإنسان صدره بالصلة بالله، والخوف منه، والرجاء فيه، والله جل جلاله يقول في سورة الطلاق: “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا”.

وهناك كثير من أدعياء التصوف يتوهمون أو يزعمون أن التصوف معناه عدم السعي أو عدم العمل، ويظنون أن التصوف كسل وبطالة، ونفور من الجهد والاجتهاد في شعاب الحياة الفاضلة الطيبة، ولو قبلنا هذا التصوير المنحرف للتصوف لكان نكبة على المجتمع الإسلامي، وكان تمرداً على توجيه الحق جل جلاله الذي يقول في سورة الجمعة، “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون”.

ويظهر أن الذين حملوا على التصوف وأهله تلك الحملة القاسية الشعواء، كانوا متأثرين بتلك الصورة التي رسمها للتصوف أولئك الأدعياء الذين لم يصدقوا في إيمانهم وإحسانهم، ولم يتقنوا العمل الجامع بين خيري الدنيا والآخرة. مع أن الأثر الإسلامي الحكيم يقول: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”.

وعلى الرغم من أن البعض يرجع بأصول التصوف إلى أيام الصحابة، بل إلى أيام النبوة، إلا أن الأكثر شيوعاً بين الباحثين هو أن البداية الحقيقية للتصوف كنمط متفرد من التقرب إلى الله كان إبان القرنين الثاني والثالث الهجريين. وهما القرنان اللذان شهدا ميلاد الشعر الصوفي، وهكذا فإن بدء الشعر الصوفي، هو نفسه بدء التصوف.

وما أن جاء القرن السادس، حتى كان الشعر هو أكثر أدوات التعبير الصوفي شيوعاً.
والحب الصوفي هو أكثر ما يميز به شعر الصوفيين، ويجعل من أشعارهم قصائد نورانية تخلب اللب، وتستحوذ على الفؤاد.
فالحب الصوفي يتخذ فيه الشاعر من الذات الإلهية موضوعا يدور حوله، وفيه يصف الحب ولذته، وما يجده من لوعة وأسى أو قرب ووصال. وكذلك ما يمر به ف تصوفه من مقامات وأحوال، ومجاهدة مستمرة للنفس، وما يتعرض له من فيض رباني، والهام قلبي، وسمو روحي.
وفي شعر الصوفيين يتجسد هذا الحب الصوفي الإلهي الغامر الذي نراه ينقسم شقين: شق يتعلق بحب الله تعالى للعبد.. وآخر يتعلق بحب العبد لله، وكلاهما أفاض فيه الشعراء الصوفيون.

وفي هذا الكتاب نحاول أن نسلط الضوء على عدد من أشهر شعراء الصوفية، الذين قدموا للإنسانية نتاجاً شعرياً رائعاً وتراثاً إنسانيا خالداً آملين من المولى عز وجل أن يحظى برضاك واستحسانك.

مجدي حسين كامل
أحلى قصائد الصوفية
دار الكتاب العربي
الطبعة الأولى: 1417 هـ – 1997 م
.
.
.

أحنّ بأطراف النهار صبابةً “”” وبالليل يدعوني الهوى فأجيبُ
وأيامُنا تفنى وشوقي زائد “”” كأنّ زمان الشوق ليس يغيب

سمنون المحب
؟ – 297 هـ / ؟ – 910 م
أبو الحسن سمنون بن حمزة الخواص.
صوفي شاعر، كان معاصروه يلقبونه بسمنون المحب، وذلك لأنه كان ينسج غزلياته وينظم محبته لله تعالى.
عاش في بغداد وصحب سمنون كل من السقطي والقلانسي ومحمد بن علي القصاب، وكانوا جميعاً من جلة مشايخ بغداد وأكابر صوفيتها.
كان سمنون ينسج في المحبة الالهية غزلياته حتى أصبح معروفاً بتخصصه في المحبة، متفرداً في الحديث عنها بلسان العاشق، لدرجة أنه اختص باسم “المحب” دون سائر شعراء الصوفية ممن عاصروه.
كما أنهم وصفوا كلامه بأنه أحسن كلام، وشعره لا يدور إلا عن الصد والهوى والجفا والصبر والرجا والوجد والعتاب والشوق والوصال والبين والبكاء والعذاب والصبابة.
ولكن “سمنون المحب” لم يكن لقب شاعرنا الوحيد، فهناك لقب آخر أطلقه هو على نفسه هو “سمنون الكذاب” ووراء ذلك قصة يرويها المؤرخون، وتبدأ ببيتين من الشعر أنشدهما سمنون على النحو التالي:

وليس لي سواك حظٌ “”” فكيفما شئتَ فامتحنِّي
إن كان يرجو سواكَ قلبي “”” لا نلتُ سُؤلي ولا التمنِّي

ويقال أنه لم يكد ينشد بيتيه هذين، حتى ابتلي باحتباس البول وذاك هو الامتحان، وأخذ يتلوى من الألم، ويدور في الكتاتيب، يرجوا الصبية أن يدعوا الله أن يعجل بشفائه قائلاً: ادعوا لعمكم الكذاب، اشارة إلى تراجعه عما قاله في بيتيه، وإظهاره للجزع، والتأدب بآداب العبودية. وعندما أطلق بوله قال: يا رب تبت إليك ، أي تبت عن طلب الامتحان.

وهنا بعض المقطوعات الشعرية المتفرقة التي تعبر عن الارتباط الوثيق بين الشعر والمحبة عند سمنون، وكيف كان هذا الشعر رقيقاً للغاية، وكيف كان سمنون نفسه يبرر هذه الرقة بقوله: لا يعبر عن الشيء إلا بما هو أرق منه، ولا شيء أرق من المحبة.

يعاتبني فينبسط انقباضي “”” وتسكن روعتي عند العتاب
جرى في الهوى مذ كنت طفلا “”” فمالي قد كبرت على التصابي

بكيتُ ودمع العين للنفس راحة “”” ولكن دمع الشوق ينكى به القلبُ
وذكرى لما ألقاه ليس بنافعي “”” ولكنه شيء يهيج به الكرب
فلو قيل لي من أنت قلت معذب “”” بنار مواجيد يضرمها العتب
بليت بمن لا أستطيع عتابه “”” ويعتبنى حتى يُقال لي الذنب

وكان قلبي خالياً قبل حبكم “”” وكان بذكر الخلق يلهو ويمزحُ
فلما دعا قلبي هواك أجابه “”” فلستُ أراه عن فنانك يبرحُ
رُميت ببين منك إن كنت كاذباً “”” إذا كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شيءٌ في البلاد بأسرها “”” إذا غبت عن عيني بعيني يلمحُ
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل “”” فلستُ أرى قلبي لغيرك يصلحُ

تركت الفؤادَ عليلاً يعاد “”” وشرّدتُ نومى فمالي رقادُ

أفديكَ بل قلّ أن يفديك ذو دنفٍ “”” هل في المذلّة للمشتاق من عار
بي منك شوقٌ لو أن الصخر يحمله “”” تفطّر الصخر عن مستوقد النار
قد دبّ حبّك في الأعضاء من جسدي “”” دبيب لفظى من روحي وإضماري
ولا تنفّست إلا كنت مع نفسي “”” وكل جارحة من خاطري جاري

أنت الحبيب الذي لاشك في خلد “”” منه فإن فقدتك النفس لم تعش
يا معطشى بوصال أنت واهبه “”” هل فيك لي راحة إن صحت واعطشى

شغلت قلبي عن الدنيا ولذتها “”” فأنت والقلب شيء غير مفترق
وما تطابقت الأحداق من سنة “”” إلا وجدتك بين الجفن والحدق

أنا راض بطول صدك عني “”” ليس إلا لأن ذاك هواكا
فامتحن بالجفا صبري على “”” الود ودعني معلقا برجاكا

ولو قيل طأ في النار أعلم أنّه “”” رضىً لك أو مدن لنا من وصالكا
لقدّمتُ رجلي نحوها فوطئتُها “”” سروراً لأني قد خطرتُ ببالكا

أمسى بخدي للدموع رسوم “”” أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحسن في المواطن

من sanaanow

اترك تعليقاً