[ad_1]

الرحالة السويسري يوهان بركهارت في رواية مصرية

باحث في الآثار والموروث الشعبي والجغرافيا وجاسوس كلما لزم الأمر


الثلاثاء – 8 محرم 1443 هـ – 17 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [
15603]


يوهان بركهارت

القاهرة: رشا أحمد

ذات يوم وبينما كان الكاتب المصري مصطفى عبيد، يتجول في شارع «المعز» الشهير بقلب القاهرة الفاطمية، لمح شاهد قبر بمنطقة مدافن «باب النصر» بدا لافتاً وغريباً، ويحمل تلك الكلمات غير المألوفة بأحرف متموجة: «المنتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ الحاج إبراهيم بن عبد الله بركهارت اللوزاني».
استبد الفضول بالمؤلف، وولدت في هذه اللحظة فكرة روايته «جاسوس في الكعبة» التي تحمل في طياتها عدداً من التقنيات والأشكال الفنية كالسرد التاريخي السلس والتحقيق الصحافي الاستقصائي ذي النكهة البوليسية، والمزج بين الواقع المعاش حالياً في العقد الثالث من الألفية الثانية وبين أجواء العالم العربي مطلع القرن التاسع عشر.
الرواية صادرة حديثاً عن دار «الرواق» بالقاهرة في 336 صفحة من القطع المتوسط، وتذكر المصادر التاريخية أن يوهان لودفيج بركهارت، المعروف كذلك باسم جون لويس بركهارت، السويسري ولد بمدينة لوزان في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1784، أمضى طفولته في مدينة بازل في منزل أسرته الذي تحول الآن إلى متحف، ثم انتقل لألمانيا في سن السادسة عشر ليدرس القانون والفلسفة والتاريخ حيث كانت تعده أسرته للعمل بالمحاماة أو الدبلوماسية.
لم يوفق الرجل في الحصول على عمل فحمل رسائل توصية وتوجه إلى لندن لكن معاناته استمرت، حتى جاءته الفرصة حين التقى سير جوزيف بانكس رئيس «الجمعية الأفريقية»، تأسست عام 1788 في العاصمة البريطانية، فالتحق بها ثم تغير مسار حياته حين تم ترشيحه للسفر إلى وسط وغرب أفريقيا، تحديداً حوض النيجر عبر مصر، فتعلم اللغة العربية في جامعة كامبريدج، كما درس الطب والكيمياء والفلك وعلم الفلزات بهدف استكشاف ما يقال عن وجود كنوز من الذهب مدفونة في نهر النيجر.
في الخامسة والعشرين سافر إلى مالطة ومنها إلى حلب بسوريا، حيث عاش ثلاث سنوات كرحالة وباحث ومغامر يستكشف الآثار في تدمر ثم بعلبك بلبنان وشمال العراق والأردن، ثم توجه إلى مصر في عهد محمد علي، الذي وصفه بـ«الحاكم القوي»، كما عاش ثلاثة أشهر في بلاد الحجاز والجزيرة العربية ليرحل مصاباً بالتسمم الغذائي في 1817.
هذا إذن هو يوهان بركهارت في سيرته الموثقة تاريخياً، فماذا عن صورته كما رسمتها الرواية؟ جعل المؤلف من الغموض حول شخصية الرجل مبرراً لإعمال الخيال واستكمال النواقص في حياته وسد ثغرة شح المعلومات التفصيلية عن حياته الاجتماعية، فجعله طفلاً شديد الذكاء، لا سيما مع بعض الخجل والتحفظ الذي يسم عادة العباقرة في صغرهم، معتداً بأبيه الذي كان ضابطاً كبيراً في الجيش السويسري وقاوم ببسالة الغزو الفرنسي لبلاده، كما جعل من جده «جيدوني» صانعاً ماهراً وصاحب تجارة عريقة. أما أمه فهي سارة روهنر الإنجليزية المعتزة بأصولها التي تعود إلى طبقة النبلاء. كل ذلك فيما يبدو بهدف خلق خلفية اجتماعية مهيبة ليصبح البطل كما لو كان منذوراً لاستعادة مجد عائلته التي ذاقت الأمرين على يد الاحتلال الفرنسي.
في سن المراهقة تتحرك مشاعره بقوة تجاه مرجريتا «الدافئة مثل شمس والمبهجة كيوم عيد». يحبها بكل جوانحه. يلاحظ جده الأمر فيهمس بخبث: «ليس في الوجود أجمل من امرأة تحبك»، بينما تعده أمه باصطحابه إلى بيت جارتها، والدة مرجريتا، شريطة أن يعدها بالاجتهاد بالتركيز في دروسه.
عندما يلتقي البطل جوزيف بانكس، يجعل المؤلف منه جاسوساً رسمياً يتناقش مع رئيسه المباشر في خطة اختراق بلدان المشرق تمهيداً للغزو الاستعماري البريطاني. يسأله جوزيف: قل لي ما خطتك يا لويس؟ فيرد بجرأة: «أصاحبهم كتاجر هندي مسلم، أحاورهم، أصلي معهم، أقرأ القرآن، وأسير بجوارهم حتى أصل إلى مبتغاي. إن رفاقنا العظام قتلوا لأنهم بانوا كأوروبيين، أي كفاراً بتعبير أهل هذه البلاد، لكن هؤلاء لا يقتلون من هم أمثالهم!».
يصف الراوي حالة البطل بعد أن اطلع جيداً على الشؤون الاجتماعية والسياسية لبلاد المشرق، وأصبح جاسوساً بامتياز، محاطاً بجواسيس مضادين يضعونه تحت مراقبة لصيقة، يرصدون خطواته من مالطا إلى حلب إلى البتراء إلى مكة إلى القاهرة: «عيون تبحلق في الظلام، لا يعرف من معه ومن ضده، من يصدق ومن يكذب، أقنعة فوق أقنعة، أسماء وصفات تنكرية». يخبره البعض صراحة أن المصريين لا يرتاحون لإقامة شخص أعزب بين ظهرانيهم، وبالتالي فعليه الزواج. يقترح عليه إبراهيم أغا، أحد رجال الباشا محمد على الموثوق بهم، أن يتزوج من «نجلاء» شقيقة زوجته، التي سبق لها الزواج مرتين فمات الزوج في كل مرة مبكراً بسبب حروب «الباشا». تغزوه نجلاء بجمالها الآسر وجرأتها الشديدة، وهي تصب له القهوة في إبريق من الفضة على آرائك ووسائد ناعمة قائلة: هناك مثل مصري يقول «زيتنا في دقيقنا»، وهذا يعني أن نختار من نعرف عند الزواج، وبصراحة أنا أراك جديراً بي، فهل تتزوجني أيها النبيل؟
يتزوجها فيعرف طعم السعادة والاستقرار، لكنه سرعان ما يتوجه نحو صعيد مصر وبلاد النوبة، فيبتعد عن زوجته التي يأتيه خبر موتها بسبب وباء الطاعون الذي حل بمصر بينما كان هو في بلاد الحجاز. وتمضى صفحات الرواية لترصد ارتحالات البطل ولقاءاته وانطباعاته عن الشرق والشرقيين وسط جو بوليسي مفعم بالإثارة والتشويق باعتباره أوروبياً يتوقع طعنة الغدر في أي وقت.
يذكر المؤلف في نهاية العمل أنه اعتمد بشكل أساسي على مؤلفات بركهارت المترجمة إلى العربية، منها «العادات والتقاليد المصرية من الأمثال الشعبية في عهد محمد علي»، و«رحلات إلى النوبة والسودان»، و«رحلات إلى شبه الجزيرة العربية»، لكن لا توجد مراجع تؤكد بشكل قاطع أن الرجل كان جاسوساً يعمل لصالح التاج البريطاني. صحيح أن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر شهدا موجة من الافتنان بالشرق اقتضت سفر العديد من الرحالة والمغامرين من أوروبا إلى البلدان العربية، وأن بعض هؤلاء كان يقدم معلومات تفصيلية لحكومات بلاده تمهد لغزو واستعمار الشرق، لكن الثابت تاريخياً أن الأمر كان نسبياً، حيث اختلطت الرغبة في الاكتشاف والتوثيق بالعمل الاستخباراتي على نحو يصعب الفصل بينهما.
المدهش أن الرواية تجاهلت تماماً الأثر العلمي الذي أحرزه الرجل على صعيد الكشوفات الأثرية والسوسيولوجية والجغرافية، وركزت فقط على الجانب التشويقي الذي لا تعد السيرة الحقيقية بالكثير منه، فاضطر المؤلف أن يكمل الناقص بخياله إرضاء لقارئ ملول. وجاء العنوان في هذا الاتجاه ليوحي بالكثير من الإثارة، في حين أن العمل نفسه يتناقض مع ذلك، فالجزء الخاص بإقامة البطل في مكة لا يتجاوز بضعة صفحات ويخلو من تلك الإثارة الموعودة.
مع ذلك جاء بناء النص محكماً بعيداً عن الترهل والثرثرة، واتسمت اللغة بقوة وسلاسة، واستطاع المؤلف وضع القارئ في قلب الأحداث منذ اللحظة الأولى عبر سرد وصفي مشوق.



مصر


Art



[ad_2]

Source link

من sanaanow