أمين معلوف في كتابه الجديد: أغنية الحب المستحيل

نهلة بيضون

يطالعنا الأديب اللبناني أمين معلوف في كتابه الأخير (الحب عن بعد) بعمل مختلف عبارة عن مغناة تدور أحداثها في القرون الوسطى. وتروي إحدى قصص العشق بين أمير فرنسي وكونتيسة طرابلس, في أواسط القرن الثاني عشر.

جوفري روديل ليس شخصية من نسج الخيال وإنما هو شاعر من الشعراء الجوالين, الذين عاشوا في فرنسا القرون الوسطى. وقد تميّزت حياة البلاط والنبلاء الفرنسيين في أواخر القرن الحادي عشر بازدهار شكل جديد من أشكال الشعر الغزلي حلّ محل القصائد الملحمية التي كانت تشيد ببسالة الفرسان وتعدد مآثرهم. وعاش الأمير الشاعر جوفري روديل (1125-1148) في تلك الفترة, واقترن اسمه بأسطورة عشقه لكليمانس كونتيسة طرابلس. فقد راح الحجاج العائدون من بيت المقدس يلهبون مخيلة الشعراء بالحديث عن مغامراتهم, وفي معرض أحاديثهم, سمع أمير بلاي بكليمانس (واسمها أصلاً ميليندا). كونتيسة طرابلس, فسكنت خياله وأهداها أشعارًا بقي منها ست قصائد مشبوبة بشغفه وأشواقه. وتروي الأسطورة أن روديل انخرط عام 1147 في الحملة الصليبية من أجل السفر إلى فلسطين للقاء حبيبته. ولكن الرحلة البحرية كانت عسيرة بسبب العواصف, وتفشي الأوبئة, وهجوم القراصنة, وحين رست السفينة أخيرًا في مرفأ طرابلس, نقل العاشق العليل على محفة إلى أحد الخانات القريبة, فهرعت إليه الكونتيسة التي أعلمت بقدومه. ويقال إن الشاعر استعاد بصره لدى رؤيتها, وحمد الله لأنه أمهله ليمتع نظره بمرأى حبيبته, إلا أن جوفري وصل – مع الأسف – محتضرًا بعد فوات الأوان, ولفظ أنفاسه في أحضان الكونتيسة التي أمرت بدفنه في مأتم مهيب, ثم قررت دخول الدير لشدة حزنها وهول الفاجعة التي ألمّت بها.

تلك هي الأسطورة الأليمة والمؤثرة التي ألهمت أكثر من شاعر كان أبرزهم الشاعر الفرنسي إدمون روستان الذي استوحاها لتأليف مسرحيته الشعرية (الأميرة البعيدة).

الشاعر الجوّال

أما كلمة troubadour فتعني الشاعر الجوال, وتصف أولئك الشعراء الذين كانوا ينظمون القصائد ويقومون بتلحينها في منطقة اللوار جنوب فرنسا. وهي مشتقة من فعل troubar أي تنظيم الشعر باللغة الأوكسيتانية أو الفرنسية القديمة. وكان هؤلاء الشعراء يمارسون فنهم في قصور النبلاء خلال الفترة الممتدة بين أواخر القرن الحادي عشر وأواخر القرن الثالث عشر, وخلافًا للفكرة الشائعة, فهم ليسوا من المطربين الدوّارين, بل من السادة والنبلاء, وقد اشتهر منهم غليوم التاسع, أمير مقاطعة أكينين الفرنسية, ويقابلهم في شمال فرنسا نظراؤهم المعروفون باسم trouveres, وهم بمنزلة ورثتهم, وتتميز قصائد هؤلاء الشعراء بموضوعاتها الغزلية والبطولية إذ تتناول إلى جانب خصال الحبيب, وألم الفراق والبعاد, قيم الفروسية كالمروءة والبسالة والشهامة, وتتخذ أشكالاً متعددة منها الحوار, والهجاء, والرثاء, إلى الأنشودة الصباحية أو المسائية.

قامت الفنلندية كايجا سارياهو بتلحين هذه المغناة التي وضع نصها أمين معلوف, وقدم العرض الأول في 15 أغسطس 2002 في إطار مهرجان سالزبورج.

تتألف مغناة (الحب عن بعد) من خمسة فصول تتوزع أحداثها بين مقاطعة أكيتين, وعرض البحر وطرابلس. وقد استطاع أمين معلوف إنتاج نص أدبي راق, يبرع في استحضار مناخ الأسطورة وحميميتها, فيتحف القارئ بوصف بديع لتطور حال العشق لدى جوفري الذي يظهر أولاً, وقد عاف الملذات, توّاقًا لحب أسمى, يرسم صفات حبيبة وهمية, فيقابل بسخرية الأصحاب والخلان, وشيئًا فشيئًا, يصبح للحبيبة اسم وكيان بالرغم من بعدها ووجودها فيما وراء البحار, في ذلك الشرق الساحر. وتتنازع كليمانس, من جهتها, شتى الأحاسيس المتناقضة, فتستاء في بادئ الأمر لدى معرفتها بذلك الشغف الذي أثارته في قلب رجل غريب, ثم يهيج بها الحنين إلى ذلك الغرب الذي يذكّرها بطفولتها, فتتساءل إن كانت تستحق كل ذلك الهيام. ولاشك أن الفصلين الأخيرين يشكّلان تتويجًا مأساويًا بين جوفري الذي تفترسه الأوهام والشكوك. ولقاء الحبيبين الذي يتحول إلى فراق محتوم وقاتل.

الغزل العذري

يصف أمين معلوف هذا العشق المستحيل بلغة شاعرية رقيقة وإن لم ينظم نصّه شعرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة, فالحوار من قبيل الشعر المنثور الذي تنتظم مفرداته انتظامًا بديعًا يرخي بظلاله اللطيفة على سير الأحداث ويخدم تصاعدها الدرامي, فيجعل القارئ لها والمتابع لتطوّراتها, متلهفًا لساعة اللقاء المشهود بين الحبيبين, متعطّشًا لخاتمة هذا الحب العذري الذي يرقى بالأحاسيس إلى فضاءات سرمدية. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نذكر بأن الشعر العربي قد حفل بالغزل, وبالغزل العذري تحديدًا, في أشعار جميل بثينة وقيس ليلى. فما صفات الحب العذري? يرى شكري فيصل في كتابه (تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام) أن الحب العذري يتصف بالحرارة الملتهبة, والديمومة الدائمة, والعفة المحصّنة, التي تؤلف جوهر ذلك الحب الذي يجمع هذه الصفات في نفس واحدة, ثم يدعها تئن وتشكو, وتتضرّع وتتلوّى, وليس الغزل العذري إلا اعتصارًا لهذه الضراعة وهذا الأنين. ويضيف شكري فيصل أن الحب العذري ينطلق من أسر الغريزة ليعيش في آفاق العفة. ويفلت من تقلّب الأهواء ليتقلب في خلود العواطف وديمومتها, يؤثر الحرمان الذي يرهقه على اللذة التي تشينه. والعذريون هم هؤلاء الذين دعاهم الجمال, وأغرتهم اللذائذ, وثارت في نفوسهم الشهوات, ولكنهم انعتقوا من هذه الشهوات, وانصرفوا عن هذه اللذائذ, وتحصّنوا بالعفة, فلم يخشوا التعبير عن عواطفهم مادامت البراءة تغلفها والعفة تحميها, فانطلقوا يغنون عواطفهم وينشدون آلامهم وآمالهم.

لاشيء يرغب به روديل وكليمانس أكثر من أن يمتلك أحدهما الآخر, ولكنهما يخشيان الاستيقاظ من ذلك الحلم الجميل, فيكون مصيرهما, في نهاية المطاف, الموت والوحدة.

لاريب أن ترجمة هذا المناخ المشبوب بالعواطف الجيّاشة, وذلك الفيض الشعري المتألم, إنما تحتاج إلى ملكة تعبيرية تحسن البوح بمكنونات القلوب العاشقة بلا أمل, والإيحاء بما يعتمل في النفوس الخائفة الحائرة من اندفاع وانكسار, من رجاء وخيبة, ومد وجزر. وكما سبق أن أشرنا, يقدم لنا أمين معلوف هذا الحب الأسطوي, الآتي من زمن البراءة, بلغة تتسم ببساطتها وقوتها الإيحائية, فلا ينظم النص شعرًا, بل تسبغه شاعرية المناجاة ورقة الأحاسيس, لتنفذ الكلمات إلى وجدان القارئ وتطبعه بعظيم الأثر, فيتحوّل النص إلى وصف يتجاوز السياق التاريخي ليكتسب طابعًا شموليًا لمفهوم الحب المقهور في كل العصور. ومن هذا المنطلق, نرى أن اللغة التي يكتب بها معلوف تنجح في المزج بين أجواء القرون الوسطى والعصر الحديث, وتبعث فيها روحًا معاصرا, فالأديب الفرانكوفوني لم يختر ألفاظًا مهجورة, ولم يسع إلى حوار يغرق في تعابير متقادمة, بل أراد لنصّه أن يتفاعل مع المحيط المتلقي. وبالتالي, فقد استندنا إلى هذه القراءة اللغوية للنص الفرنسي من أجل تعريبه.

متاعب الترجمة

وكان همّنا الأول التماهي مع نوعية المشاعر الموصوفة, والانسياق وراء الدلالات المستترة, بحيث يأتي النص العربي على القدر عينه من رقة التعبير وسلاسته, إن أصعب ما يواجه المترجم هو الانتقال من الحال الذهنية إلى أرض الواقع, أي إعادة التعبير عن الشعور, أو العاطفة, أو الانفعال بحيث يتوهّج هذا الشعور أو ذلك الانفعال في اللغة التي سوف تحتضن النص وتسهم في تألق جماليته, وتكشف أبعاده الأدبية والفنية بكل روعتها. كان مسعانا تطويع الكلام لخدمة نوايا الكاتب ومغزى النص, في روحانيته وطبيعته المأساوية المتصاعدة والمتعاظمة مع انسياب الحوار الذي يتردد بين ثناياه شجن العشق, وحيرة العاشقين, بين رجل يرسم في مخيلته صورة لامرأة مثالية, تختلط فيها الأوهام والأحلام, وسيدة نبيلة تضطرب مشاعرها بمجرد أن تسمع بذلك الوله الذي تؤجج هي سعيره من بعيد. تذكرنا قصة جوفري وكليمانس بسيرانو دو جراك وحبيبته روكسان. فسيرانو بدوره, متيم بامرأة مستحيلة المنال, عاشقة لرجل آخر, فلا يملك سيرانو الشاعر إلا أن ينقل لها حبه من خلال حبيبها, فلئن انتفى الوصال المباشر, بلغت كلمات الشاعر مسمع الحبيبة, وأطربتها بعذب الكلام. يقول جوفري لصديقه الحاج: (أخشى ألا ألقاها وأخشى لقاءها). إنها كلمات بسيطة تختزن وتختزل تناقضًا هائلاً من الأحاسيس المتأججة, ولعل جوفري كان يخشى أن يكون اللقاء المرتقب نذيرًا لموت الحب. لقد حاولنا أن تأتي الترجمة على القدر عينه من التكثيف لمعاني النص, وراعينا أن يأتي بوح العاشقين لطيفًا, منسجمًا مع مراد النص الأصلي, فتبلغ الترجمة غايتها, أي الوصول إلى أسماع وأفهام القراء. ولاريب أن نقل أشعار جوفري كان المرحلة الأصعب. فقد اقتضت الترجمة الإصغاء إلى الإيقاع الدفين لهذه الأشعار, وانتقاء ما يتوافق وينسجم مع تناغمها الأصلي, فلنصغ إلى روديل يتغنى بمعشوقته: (لن أتمتع بحب/ما لم أنعم بذلك الحب البعيد/لا أعرف أنبل وأفضل منها/في البلدان القصية أو الدانية/إنها لمن العظمة والأصالة/بحيث, وددت, لأجلها/أن أكون أسيرًا, هناك, في مملكة العرب), أو يناجي السماء معربًا عن شكوكه: (أصدق ربي/الذي سأرى بفضله محبوبتي البعيدة/إنما لكل نصيب من الخير ألقاه/نصيبان من الشر لأنها نائية/آهٍ, لوددت أن أحجَّ إليها/لتتأمل عيناها عصاي وعباءتي).

(الحب عن بعد) عمل أدبي يذكر القارئ بزمن البراءة والفروسية والمروءة والتضحية في سبيل الحبيب, ويستحضر من القرون الوسطى نوعًا أدبيًا راقيًا فيعيد إحياءه في زمن أضحى البوح فيه ضنينًا ولغة الحب فقيرة ضحلة.

نهلة بيضون مجلة العربي مايو 2004

من sanaanow