[ad_1]

يشترك الرسامون والكتاب، بخاصة الشعراء منهم، في التقاط الإشارات التي ترسلها إليهم الحياة على شكل صور متناثرة أو احتدام عصبي، أو وميض غامض يحتاج إلى من يتقن تظهيره وينقله إلى طور التشكل. على أن الطرفين اللذين يغرفان من اللهب ذاته أو الينابيع إياها، يفترقان كما هو معلوم في طريقة تعبير كل منهما عن مكابداته، حيث الكتاب والشعراء يتخذون من اللغة أداة للإفصاح عن كشوفهم الرؤيوية، فيما يجعل الرسامون من الألوان والخطوط سبيلهم إلى الهدف نفسه. وقد تكون عبارة «الرسم بالكلمات»، التي وصف نزار قباني من خلالها فن الشعر، هي التجسيد الأمثل للعلاقة الوثيقة بين الكتابة وفن الرسم، حيث لا يحتاج توصيف هذا الأخير إلا إلى قلب العبارة القبانية لتصبح «الكلمات بالألوان». أما الشواهد الأبلغ على تفاعل كل من الوسيلتين التعبيريتين مع الأخرى، فتتمثل في العدد الهائل للقصائد التي استوحاها الشعراء من لوحات التشكيليين ومنحوتاتهم، ومن الأعداد المماثلة للوحات والمنحوتات التي تم استلهامها من قصائد الشعراء والنصوص النثرية العالية.

على أن التقاطعات العديدة بين الكتاب والتشكيليين لم تدفع كلاً من الطرفين إلى الالتزام النهائي بالفن الذي يتقنه إلى درجة الاحتراف، أو على وضع خطوط تماس صارمة بين الطرفين، بل عمد كل منهما إلى اختراق المجال الحيوي للآخر، من خلال الهوية المركبة التي مكنت بعض المبدعين من توزيع موهبتهم على غير حقل تعبيري، بحيث أظهر شعراء وكتاب كثر براعة حقيقية في الرسم، كما هو حال غارسيا لوركا وجبران خليل جبران وناظم حكمت وإيتيل عدنان، فيما أظهر رسامون وتشكيليون عديدون براعة موازية في مجال الكتابة، كما هو حال رامبرانت وفان غوخ وسلفادور دالي وكثر آخرين.

تكشف المذكرات التي كتبها الرسام الفرنسي الشهير بول غوغان، عن رحلته إلى تاهيتي، التي صدرت طبعتها الثانية مؤخراً عن دار «خطوط وظلال»، ونقلتها إلى العربية أبية حمزاوي تحت عنوان جديد هو «يوميات بول غوغان في تاهيتي»، عن قدرة الفنانين الكبار على المواءمة الناجحة بين الكتابة وفنون التشكيل، سواء من حيث الفضاء التخييلي الشاسع، أو من حيث القدرة على تحويل الحواس إلى منصة للتأمل والكشف والتبصر الروحي والرؤيوي. ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن الجانب الأهم في رحلة غوغان إلى الجزيرة الواقعة في الطرف الأخير للكوكب ليس المذكرات بحد ذاتها، بل هو الرحلة نفسها بوصفها مجازفة نادرة ومحفوفة بالمخاطر، لا يرتضي خوضها سوى كوكبة من المغامرين، الذين يديرون ظهرهم دون ندامة، لبهرج الحضارة المستجدة وقشورها الزائفة، دون أن ينتقص ذلك بالطبع من الجمالية العالية للغة المؤلف، أو من أسلوبه السردي المحكم والمشوق.

ولعل المآل المرير الذي انتهت إليه علاقة غوغان بصديقه فان غوخ في الجنوب الفرنسي، بعد فترة من الألفة والتناغم الشخصي والإبداعي، قد شكل العامل الحاسم في دفع غوغان إلى النأي بنفسه بعيداً عما يعرقل مسيرته من عوائق ومنغصات، باحثاً عن المنعطف الجذري الذي يضع حياته وفنه في مسار آخر.

وإذا كان البحث عن سحر الشرق، الممتد بجغرافيته الشاسعة من شواطئ المتوسط إلى جزر اليابان، قد شكل السمة المشتركة لعدد من كتاب الغرب وفنانيه، كما كان حال غوته ونوفاليس وأرنست رينان وغيرهم، فإن صاحب غوغان قد ذهب بعيداً في تعطشه إلى اكتشاف المجهول والبحث لضربات فرشاته عن الألوان الصارخة في توهجها، قاصداً الجزيرة الواقعة في الأحشاء الشرقية الجنوبية للمحيط الهادئ، التي كانت فرنسا قد ضمتها حديثاً إلى ما سمته مستعمرات ما وراء البحار.

«في ليلة الثامن من حزيران، وبعد ثلاثة وستين يوماً من السفر، ثلاثة وستين يوماً من التلهف والانتظار، لمحنا عن بُعد ناراً غريبة تتماوج على صفحة الماء، ومن السماء أفلتت قمة بركانية ذات أثلام». بهذه اللغة البصرية الباذخة يستهل غوغان انطباعاته عن تاهيتي، التي لا يصح في رأيي نعتها باليوميات لأنها لا تعتمد على التقسيم الزمني اليومي لتأريخ الرحلة، بل على التدوين التلقائي والحر لما علق في ذهن المؤلف من أحداث وانطباعات. فالكتاب الصغير الذي لا يكاد عدد صفحاته يبلغ المائة، لا يغطي سوى بعض وقائع المرحلة الأولى من إقامة غوغان في الجزيرة النائية، التي غادرها مؤقتاً لتسويق أعماله التشكيلية في باريس، قبل أن يعود إليها من جديد ليقضي بقية حياته في كنف عوالمها البدائية وأهلها البسطاء الذين تتأرجح أمزجتهم بين السكينة الوادعة والتماهي الكلي مع شراسة الطبيعة وتحولاتها المباغتة.

وإذا كانت الصدفة المجردة هي التي شاءت أن يترافق دخول غوغان إلى العاصمة التاهيتية بابيتي مع رحيل الملك المريض بوماري، فقد حرص غوغان على توثيق تلك اللحظة المفصلية في تاريخ الجزيرة، سواء من خلال انتقالها النهائي إلى عهدة الفرنسيين، أو من خلال الطقوس الجنائزية المحلية التي تتم في مثل هذه الحالات، والتي يشارك في إحيائها سكان الجزر الصغيرة المجاورة، قبل أن ينتهي كل شيء وتعاود عجلة الحياة دورانها الأبدي. فخلال أيام قليلة يستعيد الناس مرحهم الاعتيادي وحيويتهم الفائضة الممهورة بلهب الشموس، حيث الرجال الأشداء الذين يضربون الأرض بأقدام مثيرة للغبار، يمسكون بأيدي نساء مبرعمات الصدور لهن، كما يقول غوغان «وداعة وليونة حيوان صغير، قوي ومعافى، وتفوح منهن رائحة حيوانية ونباتبة، كما عطر دمائهن وأريج الغاردينيا المشكولة في شعرهن، ويهزجن بصوت واحد: (يني ميراهي نوا نوا)». ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هذه العبارة التي تعني بالعربية «الآن نفوح شذى» هي العنوان الأصلي لمذكرات بول غوغان الذي عرف من خلال علاقاته العاطفية بنساء تاهيتي، كيف ينقل ذلك الشذى النفاذ إلى لوحاته اللاحقة.

لم تُصب العاصمة بابيتي أي هوى في قلب غوغان. لا لافتقارها إلى الجمال، بل لأن الأوروبيين قد حولوها بفعل جشعهم المفرط وهوسهم بالتجارة والربح، إلى مدينة هجينة يتم بشكل ممنهج إبعاد سكانها عن نقائهم الأصلي وإدخالهم في شبكة أخرى من علاقات الانتفاع والرياء والتكاذب الاجتماعي. ولأن المرأة بالنسبة لغوغان هي المعيار الحساس والأكثر تعبيراً عن الحقيقة الإنسانية، فهو لم يستطع مواصلة علاقته بالأميرة فاييتوا التي كُلفت برعايته أثناء المرض، لأنها أجهدت نفسها بغية إرضائه في تقليد السلوكيات الغربية الوافدة، وفي استعراض ثقافتها الأوروبية، فيما كان هو يبحث على النقيض من كل ذلك، عما تتركه براكين البلاد في أعماق نسائها من وهج الأصالة وذهبِها المختزن.

ولم يتوان الرسام الأربعيني في إطار المقارنة بين التقاليد الاجتماعية الغربية والأخرى التاهيتية، عن الانتصار للثانية على الأولى، ليس فقط بما يخص براءة السلوك ونقاء السريرة، بل بما يخص العلاقات العاطفية بين الجنسين، وخلوها التام من العقَد والتابوهات. ففي تاهيتي «تمنح الغابة والنسيم الآتي من البحر، القوة للرئة فتتسع، وتنمو الأكتاف عريضة. رجالهم ونساؤهم يتعرضون بالقدر نفسه لأشعة الشمس ويدوسون الحصى والرمال. وهذا التقارب بين الجنسين جعل علاقاتهم شديدة السهولة، وحالة التعري الطبيعية الدائمة أبعدت أذهانهم عن مشاغل الجسد (الغامض) التي تولَد توتراً شديداً لدى الشعوب المتمدنة». أما في بيئتنا الأوروبية، يقول غوغان «فبفضل الأحزمة والمشدات، نجحنا في جعل المرأة كائناً كامل التشوه، وأبقيناها في حالة من الضعف العصبي والدونية الجسدية».

ومع أن غوغان يفرد صفحات شتى للحديث عن الحضارة الماوورية وما تحفل به من حكايا وأساطير متصلة بأصل الخليقة وآلهتها الكثيرة المنوط بها تنظيم شؤون الطبيعة والبشر، فإن الاسترسال في تعقب معتقدات السكان الأصليين، قبل وصول بعثات التبشير المسيحي، قد أسهم في إبطاء السرد وحشوه بفائض غير مبرر من الأسماء والتفاصيل من جهة، وفي حرمان القارئ من تعقب مسيرة المؤلف بكل ما يكتنفها من غرابة وقدرة على الإدهاش. أما زواج غوغان من الفتاة اليافعة تاهورا، فيعود الفضل فيه إلى الصدفة وحدها، حيث عرضت عليه امرأة أربعينية أن تزوجه من ابنتها الجميلة، فيما لو قطع لها وعداً صادقاً بإسعادها والاعتناء بها. وهو ما حدث بالفعل، حيث استطاعت هذه الفتاة، بما تمتلكه من فتنة وذكاء، أن تحرض زوجها على الرسم، وأن تجسد بالنسبة له الروح الماوورية المترعة بالاندفاع الشهواني والغموض الساحر. إلا أن تاهورا التي بدأت تتعلق شيئاً فشيئاً بزوجها القادم من وراء المحيط، ما لبثت أن شعرت بصدمة قاصمة وهو ينقل إليها خبر مغادرته للجزيرة وعودته إلى بلاده الأم، قبل أن يكتشف فيما بعد أنه لم يعد قادراً على تحمل العلاقات الرأسمالية المنفرة التي بدأت تلقي بظلالها على البشر في بلاد الغرب، ويعود أدراجه ثانية إلى الجزيرة الفردوسية التي شهدت ولادته الثانية، والتي أراد لها أن تكون مثواه الأخير. وحين لوحت له تاهورا بمنديل الوداع، لم يملك غوغان سوى أن يستعير لها من إحدى شاعرات تاهيتي هذه الأبيات المؤثرة:

إيه يا نسائم الجنوب والشرق اللطيفة

تحومين بعذوبة وتحلقين فوق رأسي

أسرعي إلى الجزيرة المجاورة

هناك ستجدين في ظل شجرته المفضلة

ذلك الذي هجرني

قولي له إنك رأيتِني أبكي




[ad_2]

Source link

من sanaanow