[ad_1]

ونحن نلملم ما تبقى من دور النشر في معرض الرياض، ونرزم الكتب التي أهداها لنا أصدقاؤنا، دواوين شعر، وأحلام سنين، وقصائد حب، وفكر، وقلق، نرزمها ونحن نشاهد بعضنا البعض، حيث الكل يتحرك بسرعة رهيبة تذكرت أبيات البلاغة التي استشهد بها «الجرجاني» حيث بدأت أدندن بهذه الأبيات:
ولما قضينا من منىً كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على هدب المهارى ركابنا
فلم يعرف الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح
وفعلاً كانت هذه الأبيات قريبة جدا من مشهد آخر ليلة من ليالي معرض الكتاب في الرياض، ذلك المعرض الذي فتح قلبه قبل أبوابه لاستقبال العراقيين بوصفهم ضيف شرف المعرض، هذا الأمر يحدث لأول مرة للعراق حيث يحضر العراق بوجهه الذي يعرفه الناس، الوجه الثقافي والفكري والمعرفي والجمالي، العراق الذي وجدناه راسخاً في عقول الشيوخ وقلوب الشباب، لم تفرقهم السنين ولم يقبلوا أن يتبنوا فكرة عن العراق إلا بوصفه قصيدة طويلة كتبت على مر السنين، وكل جيل يأتي يضيف لها بيتاً ويرحل وتبقى الناس رواة لهذه القصيدة الطويلة.
لا يمكن للحديث عن لحظة وجود العراق في معرض الرياض إلا حديثاً شعرياً، لأن المعادل الموضوعي للجمال الذي ووجه به الوفد العراقي لا يمكن أن يكون إلا قصيدة حب توازي حجم الحفاوة والمحبة التي غمرت الوفد العراقي طيلة عشرة أيام، وكأن الكل كان ظامئاً لرؤية الكل، وما معرض الرياض إلا لحظة يستعيدها الفتيان والشباب بعد عشرات السنوات بحب، مثلما استعاد السعوديون بعد أكثر من خمسين عاماً الدكتور «علي جواد الطاهر» حيث وجدناه راسخاً بذاكرة السعوديين ووجدانهم، وبهذا يلهج باسمه كل طلبته ومجايليه، ذلك أن «الطاهر والمخزومي» وأساتذة كباراً آخرين وفدوا إلى السعودية وانضموا إلى جامعتها بعد أن طردتهم الجامعات العراقية بعد 1963 فاحتضنتهم المملكة وهم في نفس الوقت احتضنوا الأدب السعودي، والطاهر خدم الأدب السعودي خدمة كبيرة كما يروي لنا طلابه الذين جاوزت أعمارهم السبعين الآن.
يروي السعوديون كيف أن هؤلاء الأساتذة ظلوا ملاحقين من قبل السلطات العراقية، حيث أرسلت الكتب والتقارير خلفهم تطالب الجهات السعودية بطردهم لأنهم يساريون وأنهم شيعة كما يروى، فتجيبهم الجامعة السعودية بأنه إذا كان لديكم مثل هؤلاء فابعثوهم لنا، وبهذا فقد طاب المقام للطاهر وارتبط مع علّامة الجزيرة «حمد الجاسر» بعلاقة صداقة وثيقة، احتفظ بها الجاسر ليردها بعد وفاة الطاهر بوفاء كبير، حيث طبع له بعضاً من كتبه التي أصبحت مراجع مهمة للدراسة في المملكة.
هذه اللقطة مر عليها أكثر من خمسين عاما لكنها ما زالت في الوجدان السعودي، لهذا ستبقى لحظة حضور العراق إلى معرض الرياض عالقة في ذاكرة الكثيرين، لأن العراق حضر بكل قواه الناعمة، حيث الأثر الكبير لهذه القوى في النفوس والأرواح والوجدان.
معرض الرياض يؤشر بوضوح إلى أهمية الثقافة بوصفها سلطة مؤثرة وفاعلة وأنها أكثر أثراً من أي من السلطات، فالذي يريد أن يقضي على جماعات إرهابية أو متطرفة في مدينة من المدن لا تكفي المواجهة الأمنية والعسكرية لها، إنما بناء مسرح أو دار سينما أو إقامة حفلات أو سماع موسيقى، كلها ستكون عوامل أكثر نجاعة لتأهيل المدن والأرواح.
وصلنا إلى الرياض وبعضنا يراها لأول مرة والبعض الآخر زارها من زمن طويل، ولكن الجميع شعر بحداثة هذه المدينة، ولكن في نفس الوقت شعر الجميع بأنهم ما زالوا في بيوتهم، وبين أصدقائهم وأهلهم، توزعت نشاطات المعرض لفعاليات عديدة ومتنوعة، ولكن بقي للعراق سهمه الأكبر في هذه الفعاليات، فقد صنع القائمون على المعرض ليالي مضيئة بأسماء عراقية مضيئة وكبيرة فكانت ليلة للجواهري وليلة للسياب وأخرى للطاهر، وتناوب نقاد وأكاديميون عراقيون وسعوديون على تغطية تلك الليالي، بالبحث والإضاءة والنقاش، وبهذا يؤشر أن العقل الذي يقف خلف إدارة هذه الليالي هو عقل يمسك الأشياء عند منتصفها، فقد وازنوا ما بين الكلاسيكية والحداثة، حين وضعوا الجواهري والسياب، فضلاً عن أمسيات شعرية وحديث عن الرواية وجوائز البوكر وورش نقدية حول الفولكلور والتراث الشعبي العراقي.
الأجمل من ذلك هو مساحة الحوار التي حظيت بها هذه الزيارة، فقد تحدث العراقيون إلى السعوديين وبالعكس أحاديث طويلة في شأن الثقافة وأهمية أن تكون جزءاً في بناء أي دولة من الدول، وأنها جسر حقيقي للعبور نحو الحياة، وقد فتحت أكبر المراكز الثقافية أبوابها للعراقيين، باحثين ودارسين حيث أقام مركز «حمد الجاسر» ندوة اجتمع فيها كبار مثقفي السعودية والعراق، وتحدث الدكتور «حسن ناظم» فيها عن العلاقات الثقافية بين البلدين، وعن أهمية الثقافة في بناء الدولة، وقد دار فيما بعد حديث طويل لمداخلات المثقفين العراقيين والسعوديين في هذا الشأن، ومن ثم تكرر الأمر مع «فيصل بن معمر» الذي أدار مراكز الحوار الديني والثقافي في مراكز مهمة في المملكة وخارجها. أهمية هذه المعارض ما يقام على هامشها من حوار غني وثري بين المثقفين، فقد استضافت مجموعة «أدب» المعروفة للدكتور «عبد الله السفياني» عدداً من الشعراء العراقيين والسعوديين، ودارت القصائد والأحاديث لتجسر كل هوة حدثت في يوم من الأيام، وهذا ما صنعه الإعلامي والمثقف «محمد رضا النصر الله» حيث جمع الكل في جلسة ثقافية ودار حوار ثقافي طويل.
أماكن أخرى حضرتها خارج الرياض في الدمام مع عدد من الشعراء الرائعين ومحبي الشعر والثقافة سواء في ملتقى ابن المقرب أو في منتديات أخرى، حيث الحوارات المفتوحة عن الشعر وعن العلاقة العراقية السعودية على مر التاريخ.
أيام معرض الرياض هو حج ثقافي حقيقي، رمينا به جمرات السنوات التي مرت، وقصصنا به شعرة الخلافات، وركضنا نحو زمزم حياتنا بكل حب وود.
وأنا أفتح حقيبتي في اليوم الثاني لوصولي، اتصل علي الشاعر «محمد إبراهيم يعقوب»، ليقول لي أين أنت؟ فأرد عليه ببيت استدعته الذاكرة لحظتها للشاعر الكبير «حامد الراوي» حيث يقول فيه:
ملقىً على طرقات مكة
لا أجير ولا أجار
لحظتها قطع تذكرته من جازان ليصل الرياض بعد ساعات قليلة. معرض الرياض حلقة جديدة ستترتب عليها في المستقبل القريب مجموعة إجراءات تديم هذا الزخم وتنعشه.

معرض الرياض الدولي احتضن مكتبة عراقية عمرها نصف قرن




[ad_2]

Source link

من sanaanow