[ad_1]

من محاضرات موسم أصيلة الثقافي الدولي الثاني والأربعين

الحديث عن الشعر وعن لغته هو حديث عن شيء واحد، لأن اللغة هي الشعر والشعر هو اللغة.

وعلى كل ما صار يمثله الشعر من مجال لحروب عربية من نوع آخر حالياً، على غرار الدين والسياسة، وعلى غرار الفضاء العام برمّته، وأشياء أخرى في كثير من الأحيان (فنحن في هم وفي قلق… كما تمت الإشارة إلى ذلك أمس… ولعل هذا من الهم الكثير المضحك بتعبير المثل المغربي، أكثر مما هو مدعاة للتشاؤم).

سأطرح في هذا اللقاء قضية معروفة ومحورية في لغة الشعر، وهي فكرة الغموض في الشعر. فهي عند بعض مشكلة، وعند بعض آخر معضلة، وعند غيرهم ظاهرة فنية وقيمة جمالية. ولكنها تبقى طامّة، وليست بالصغرى، حينما تركبها أصوات تعتمد الضجيج اللغوي والرنين النشاز للكلمات مادةً في الترصيف وتركيب الكلام، وحشوه على بياض الورق خلواً من أي حرارة أو طاقة دلالية تربط مكوناتِه وأطرافَه، (الموجة المعروفة المجيِّشة والمجيَّشة التي ملأت المؤسسات وكل ما يُعرف بالفضاء الثقافي، يمكن أن نسميها، انصر أخاك ناظماً أو منظوماً… وشاعراً أو مشعوراً). (مهم: الشعر، القصيدة تكتبني).

«الحديث عن الشاعر يستحضر الناقد» إذا كان مفهوم الغموض عند نقاد العرب القدماء يعني عدم الوضوح، أي كل أنواع التعقيد في القول والمعنى مما نجده في مؤلفاتهم، كالجرجاني والآمدي والمرزباني وغيرهم…

في نقدنا العربي الحديث، تعددت معاني الغموض ومفاهيمه، لأسباب كثيرة، ولا شك أن الانفتاح على الثقافة الغربية له دور وأثر في هذا التشعب المفهومي. ولنأخذ أمثلة مختصرة، لإعطاء فكرة، من عز الدين إسماعيل وأدونيس.

الدكتور عز الدين إسماعيل يفرّق بين الغموض والإبهام: فالغموض في رأيه صفة خيالية في الشعر سابقة على التعبير والصياغة، أي خاصية في التفكير الشعري، وليس في التعبير الشعري، ذلك أن الغموض يعود بالشعر إلى أصالته وحقيقته، حين يكون مرتبطاً بالسحر والأساطير، وغير ذلك من مظاهر طبيعة العقلية البشرية البدائية… ما يجعل من الغموض قيمة إيجابية في التعبير واللغة الشعرية. أما الإبهام فهو عنده «صفة ترتبط أساساً بالنحو، أي ما يُعرف بالتركيب الجملي، وعليه فهو قضية لغوية في المقام الأول، بمعنى أنه يكمن في طبيعة التركيب اللغوي نفسه»، ولذلك فهو عنده لا يمثل ضرورة فنية، فيَسهل أن نعُدّه عيباً أو صفة سلبية في الشعر.

ويرى أدونيس أن ما نسميه غموضاً هو نوع من تعدد الأبعاد في القصيدة، وعليه فإن الغموض عنده في القصيدة هو بذاته قيمة إيجابية، لكنه يشترط حسب قوله أن يكون لهذه القصيدة حضور فني خلاق، (مع أنه لا يعطينا أي فكرة عمّا يقصده بالحضور الفني الخلاق!) بل يضيف فقط أن كل حضور فني خلاق يتسم بالغموض، بمعنى ما، وبهذا المعنى حصراً يمكن القول إن الغموض بحد ذاته قيمة جمالية إيجابية (المثالان هنا فقط لإثارة الأسئلة حول الموضوع).

وما دام الخطاب حول الشعر عموماً، وَلْنَقُلْ عن لغته أيضاً، أو على وجه الخصوص، ساحة ملغومة حمّالة سيوف، فإنني أرى في إطار ما هو عام، ودون التوقف عند بعض ما يُنشر في هذا المجال، أن هناك نوعاً من التهافت وراء التقاط الكلام أو بعض الصور وضم بعضها إلى بعض في غياب الرابط الناظم المولِّد للمعنى، قد نصفه أحياناً بالهذيان «قدْحاً»، بحيث لا يرقى إلى قيمة الهذيان في بعده الفني الجمالي… وقد لا نهتدي إلى أي تسمية أو صفة تُنسب إليه أو يُنسب إليها… لذلك يمكن أن نستنتج أن ضعف الذوق العام الناتج عمّا يمكن تسميته تخبط الوضع الثقافي للشعوب أسهم في إضعاف منظومة الغربال النقدي، إن صحّ القول. في إطار نسبي طبعاً، فلا يصح أن نقطع الخير من أرض الله لأن الساحة الشعرية العربية المعاصرة تغطي مساحات من الجمال والريادة ورونق التعبير، شكلاً ومضموناً، ما لا يحتاج إلى أن يُدافع عنه أو يُترافع بشأنه.

ولعل أهم ما يمكن الإشارة إليه، إذا كان لا بد من محاولة التشخيص النقدي، هو أن لغة الشعر اليوم في كثير مما يُتداول تعاني من ضعف الملاءمة لما يتطلبه الشعر، فهل يمكن الحديث عن شعر في غياب لغته الغنية الولود؟ ولعل مردّ ذلك عموماً إلى ضعف الثقافة والاطّلاع المعرفي والتسرع في الإنجاز، ما ينعكس سلباً على قيمة اللغة، فكرةً وعبارةً معاً، وهي تشتغل وتشغّل في محترف المصوّر بهذه اللغة نفسها.

فالشعر يحتاج من الشاعر إلى معجم غني وتمرس فكري واسع، وليس إلى معرفة نحوية صرفية، وموهبة ورغبة فقط. شأنه شأن المشتغل بفن الرسم، لا يكفيه أن يعرف قوانين فيزياء وكيمياء مزج الألوان وتوليد تدرجاتها الصورية، بل يحتاج إلى توسيع مداركه الفكرية في مجاله وتنشيط ثقافته البصرية للرفع من القيمة الجمالية لمنجزه الفني، وإنتاج كيمياء أعلى من المادة، كيمياء لا تثير البصر فقط، وإنما البصيرة أيضاً.

لذلك فالغموض في لغة الشعر، إذا كان قيمة جمالية مطلوبة إيحاءً وترميزاً، فهو وُجد ليخدم البعد الفني في القول الشعري، وإلا فهو مجرد هروب وتعمية وتوهيم. ويتحدث النقاد هنا عن غياب الثقافة وفقر المعجم اللغوي، ما يجعل الغموض اللغوي التعبيري درعاً وذريعة للاحتماء والتخفي، ويصير كآلية أو تقنية مقصودة لذاتها، وليس لغاياته. فيتجلى محتوى قاصراً عن التأثير في وجدان الناس، وجافاً من كل بُعد رمزي إيحائي، أو عمق فكري يعبّر عن معاناة صاحب المنتج اللغوي الذي يطمح إلى التصوير الشعري. وهي أمور يتفطن لها المتلقي العارف بمواطن الجمال الفني، ناهيك بالقارئ الناقد المتمرس بعلم النقد والتذوق الشعري.

ونذكر كيف هاجم العقاد التوجهين، الرمزي والسريالي، على كل ما يمثلانه من جدية وتجديد في التصور والتأصيل لمفاهيم حية وحيوية بالنسبة للأدب وللفن بشموليته. ذلك فقط، لأنه رأى في منتج بعض من ركب موجة هذا التجديد جوانب من الغموض يقرب من التلفيق، فتبدّى لديه تزييفاً وانحرافاً عن مقاصد هذا التوجه الفكري، بحيث يبتعد بالفن عن الذوق السليم.

النتيجة إذن أن هذه اللغة الغامضة البعيدة عن الذائقة، التي لا تستند إلى معيار جمالي تفسد على الشعر عفوية التعبير والتأثير، حتى لدى «كبار الشعراء»، فكيف بها لدى من هم في البدايات، أو يتخبطون في وسط الطريق.

وأرى أن أختم بالقول إن الغموض في رأيي قيمة فنية يمكن أن يصيبها الشاعر صيداً تلقائياً عفوياً يتساوق مع لحظة الخلق والإبداع المرتبطة أساساً بصدق التجربة، لأن الشاعر الحقّ قد ينحت معانيه من الحجر، ولكنه لا يرصف الكلام كما تُرصف الأحجار، ليوهم الناس أنه يبدع شعراً أو ينظمه.

* ناقد أدبي، أستاذ السيميائيات وتحليل الخطاب، كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، الرباط




[ad_2]

Source link

من sanaanow