[ad_1]

تقول عبير نعيم «تبدو كل أنواع المعرفة معطَّلة عندي داخل هذا الرَّحِم الضَّيِّق في عمق فجوة حالكة… أدوات الخطيئة معطَّلة إلى حين خروجنا من تلك الفجوة الآمنة»، ثم تصف شوقها إلى الخروج من هذا العمق «الحلم الأوحد الذي يراودنا هو حلم الخروج… أقاتل من أجل القدوم وكأني أتوق للعذابات المجهولة»، وهي هنا تعرِض هذه الأفكار بطريقة استدعاء الماضي؛ فالإنسان في رحِم أمه لا يدرك شيئًا من ذلك، وإنما تُصوِّر الكاتبة تسلسل الأحداث وتَتَابُعَها.

ثم تصف حالها لحظة ميلادها «لا شيء سوى بكائي يؤنسني… فالليلة الأولى في الحياة تشبه في قسوتها الليلة الأولى في العالم الآخر».

وبعد أن وُلِدتْ وذاقت طعم الحياة؛ بدأت تستكشف ما حولها في هذا العالم الذي جاءت إليه «غريزة الحياة تدفعني للفضول على اكتشاف الوجود من حولي، نظرتُ خارج القبو، فوجدتُ قرصًا مضيئًا يملأ الكون بشعاع أصفر..»، وهي تقصد قرص الشمس، الذي تُغرَم به وتغار عليه؛ ومن هنا تدخل الكاتبة إلى أولى الظواهر الاجتماعية التي تناقشها في هذه المجموعة؛ حيث تسيطر الأنانية على بطلة قصتها، التي لا تريد أن يتمتع بضوء الشمس ودفئها أحدٌ سواها، ويُفْضي بها الأمر إلى الهروب كما تقول عبير نعيم في قصتها “أعمار الموتى”، «أهرول بقدمٍ حافيةٍ ناحية اتجاهٍ مجهول»، ذلك المكان الذي تُقابل فيه جماجم الموتى، وتتكلم معها، وتستقي منها النصيحة «لا خلاص من هذا العالم المادي إلا عندنا»، وتلتقي وسط هذه الجماجم بجمجمة أمها، التي تخبرها «أنا هنا على ما يرام، لا يقلقني سواك يا ابنتي»؛ وكذلك يكون الأمر؛ فالأموات قد عرفوا مصيرهم؛ انتهت أعمالهم، وينتظرون حسابهم، أما الأحياء فما زالوا أسارى في قفص الحياة الدنيا، وقد فطنت الفتاة إلى ذلك، فصحَّحت فِكرَها «تصورتُ وقتها أنهم هم المحبوسون وليس أنا، لكنهم يعرفون أكثر عن الحقائق التي لا أدركها أنا هنا».

كتب

ثم تصل إلى جمجمة أبيها، وأثناء حوارها معه تجد شعاع الشمس يداعب جسد أمها، فتشفق على أبيها من رؤية ذلك المشهد، فتحمل عظامه بعيدًا، ثم تخبره بالسبب، فيجيبها «لقد تحرَّرنا من شهوة الجسد، وخلعنا الجسد أداة الخطيئة، عندنا لا مجال للخيانة أبدًا»، فما زالت ترى أن مداعبة الشمس لغيرها خيانة من الشمس، وأن سكوت أمها على مداعبة الشمس لها؛ هي خيانة لأبيها.

ثم تنتقل الكاتبة إلى “كتلةٍ” من الظواهر الاجتماعية (المريضة)، في قصتها “جزء من اليقظة”، فتعرضها بشكلٍ مكثَّف، على سبيل النقد، ويأتي ذلك العرض على لسان بطل قصتها، وهو رجلٌ ميتٌ يعرِض  أحداث يوم وفاته، كما عرضت بطلة أولى قصص هذه المجموعة أحداث يوم ميلادها.. يقول (الميت): «كنت أتناول طعام الفطور، وفجأة وقعتُ على الأرض… أحضرتْ زوجتي جارتنا الكبيرة في السن، لديها ما يكفي من الخبرة أن تعرف إن كنت ميتًا أم لا، فجاءت تقلِّب في جسدي يمينًا ويسارًا، وتفتح عينيَّ ولكن بلا جدوى، بلَّغتْ زوجتي أني فارقت الحياة»، فهو رجل فقير معدم، لا يجد أهله ما يدفعونه للطبيب، فجاؤوا بجارتهم العجوز.. ثم يذكر (الميت) انتقاله إلى مقبرته «كان الوقت من منزلي إلى المقبرة عدة ساعات، ولكن لا أعرف كم من الوقت سأقطعه وأنا ميت»، وبينما هو في هذه الحال يتمنى لو كان صديقه المقرب (بهجت) معه، ثم يستدرك فيقول «ولكن لا أظن أن أحدًا سيلبِّي دعوتي إلى هنا»، وبينما هو كذلك إذْ يشعر بتيارٍ بارد داخل الصندوق الخشبي الذي يحملونه فيه، فينظر، فيجد أنه ثقبٌ صغير، فينظر منه ليرى ما يحدث حوله «وجدتُ عددًا قليلًا من المشيِّعين لجنازتي، أولادي يحملقون في دهشة، زوجتي تقف بعيدًا كأنها خائفة من عدوى الموت، أبواب الدكاكين القديمة مفتوحة كما هي بلا زبائن، وأصحابها يجلسون أمامها كالتماثيل»، ونلاحظ في هذه القصة دقَّةً في الوصف وتكثيفًا، وتفصيلًا يوضح طبيعة ذلك المكان الذي كان يسكن فيه، والفقر المقذع الذي يعاني منه السكان، حتى أنَّ أُسرته لا تستطيع قضاء دَيْنِه الذي تركه عبئًا عليهم بعد موته «عم موريس صاحب محل الملابس المستعملة يُغرقني بوابلٍ من السُّباب لأني متُّ قبل سداد الدَّين الذي له عليَّ، لكنه شعر بالإحباط، فعاد يشاكس مع زبائنه لإقناعهم من جديد أن بضاعته جديدة»، وانتِباه الكاتبة إلى تفاصيل كبضاعة (موريس) المستعملة، التي يحاول بيعها للزبائن باعتبارها جديدة؛ يُضْفي مصداقية، وتصويرًا حقيقيًّا للواقع المؤسف الذي تعيشه مجتمعاتنا.

وكذلك انتباهها إلى تفاصيل الشوارع والطرقات «الوجوه شاحبة على المقاهي المطلَّة على شارع ضيِّق متَّسخ… وها هو الشحاذ يجلس في منتصف الطريق بملابسه الممزقة، يمدُّ يده للمارَّة ولا أحد يعطيه قرشًا واحدًا»؛ هذا كله يجعل الصورة أكثر وضوحًا، ويساهم مع العناصر الأخرى في تشكيل الواقعية المطلوبة، التي تجعل القارئ أكثر انسجامًا، وإدراكًا للموقف، وقابليَّة للنصيحة التي تريد أن تقدِّمها الكاتبة.

نعود إلى الميت، فنراهم يمرُّون بجنازته من أمام مدرسته، فيتذكر كيف كان موهوبًا في الرسم، ثم حين طلب مدرس الرسم من التلاميذ أن يرسموا الفاكهة المفضلة لديهم «ولأني لا أعرف الفاكهة؛ ذهبت إلى بائع الفاكهة، فأعجبت بنوعٍ عرفت من البائع أن اسمه تفاح… أرسمها جيدًا، ولكن رسمتها مقضومة، وسألني المدرس: لماذا مقضومة؟ فأجبته: لأنني كنت أتمنى أن أتذوق طعمها»، ثم يذكر كيف طرده المدرس من الحصة مراتٍ لأنه لم يحضر أدوات الرسم، ثم طُرِد من المدرسة نهائيًّا لأنه لم يستطع سداد مصروفات المدرسة؛ وهذا ملمح جديد من ملامح البيئة المحيطة به، التي تعرضها الكاتبة بمهارة.

ثم يمرُّون به من أمام الحانة القديمة، فيرى صديقه “بهجت” غارقًا في فعل المنكرات، ثم تلفِت نظره من داخل الصندوق فتاة فاتنة، تتبادل هي وشيخ كبير قبلاتهما أمام المارَّة، بعد أن أغراها بالمال، وهنا يتمنى لو كان حيًّا ليحتفل معهما، غير أنه يفاجأ حين تستدير الفتاة بوجهها ناحية فتحة الصندوق؛ أنها ابنته «الغضب يحرق أعصابي، أحاول الخروج من الصندوق لأقتل هذا الرجل الذي غرَّر بابنتي وجعل منها فتاة ليل»؛ ونلاحظ هنا التناقض في شخصية هذا الرجل (الميت)؛ فهو حين رأى تلك الفتاة وما تفعله من منكرات؛ تمنَّى أن يشاركها ولمَّا عرف أنها ابنته؛ تغيَّر حاله وتمنَّى الانتقام ممن جعلها كذلك، فكأنَّ الله عاقبه بنيَّته.

ثم بدأ يتذكر «فساتين ابنته التي كانت تملأ الدولاب، والمساحيق التي كانت تضعها بكثرة، وتأخُّرها حتى منتصف الليل عن البيت»، فعرف أن الذنب ذنبه؛ لأنه أهمل تربيتها، وقصَّر في توعيتها، وترك لها الحبل على الغارب كما يقال.

وتنتقل الكاتبة إلى عرضِ موقف آخر، هو تتِمَّةٌ لدور ابنتِهِ (فتاة الليل)، فبينما هو يفكر في حالها وما آلت إليه؛ إذْ يسمع صراخ امرأة وأطفال، فينظر «إنها زوجتي وأولادي.. مشاجرة مع صاحب المنزل، يرمي بأثاث منزلي القديم المكسور إلى الشارع، ويطرد عائلتي لأنهم لا يملكون مالًا لدفع الإيجار»، وهذا من المواقف الحياتية الواقعية، وظاهرة من الظواهر السيئة في مجتمعاتنا؛ وممَّا زاد الألم والأسى عند ذلك (الميت) أنه في خضمِّ ذلك كله يرى بائع الخبز يضرب ابنه الصغير حتى يسيل منه الدم، ويسترد منه رغيفًا كان قد سرقه أثناء انشغال البائع بمشاهدة مشاجرة أمه، ثم تجري ابنته بملابسها العارية القصيرة: «أمي.. أمي؛ لقد أحضرت لكما النقود»، فكأنَّ هذا هو دورها في هذه القصة.

لوحة: عمران يونس
لوحة: عمران يونس

ويستمر (الميت) في متابعة أسرته، ويشاهد ابنه وهو يقضم تفاحة قد سرقها من بائع الفاكهة «سيقضم التفاحة ولن يحتاج إلى رسم تفاحة مقضومة، ولن يسخر منه العالم بعد الآن»؛ فقد استراح الآن بعد أن رأى ابنه أفلت من إحدى المشكلات التي كان يعيشها أبوه.

وفي قصة أخرى عنوانها “مذكرات فأر” تتناول الكاتبة قضية التفاوت الطبقي بين الزوجين، من خلال قصة رجل فقير تزوج امرأة من أسرة ثرية، وكانت هي صاحبة الكلمة في أسرتهما الجديدة، التي عاشت فترة مستقرة الحال، إلى أن وقع زلزال سنة ألف وتسعمئة واثنتين وتسعين، فمات أحد أبنائهما في ذلك الزلزال إِثْر تهدُّم منزلهم، ثم بدأت الأمور تسير في اتجاه آخر؛ حيث ينتقلون إلى بيتٍ آخر في منطقة عشوائية، لا تطيقها الزوجة، فتخلع زوجها، ويذهب بعض الأبناء مع الأم، ويبقى الآخرون مع الأب، فتعاقبهم الأم بالامتناع عن زيارتهم، وتصبح الحال كما تصوِّرها الكاتبة على لسان أحد أبناء تلك الأسرة «تباعدت بيننا المسافات الطبقية، كما تباعدت المسافات الفكرية»، فيصبح الأبناء كأنهم من أسرتين مختلفتين.

أما في قصتها “الهروب عبر البُعد الرابع” فتناقش الكاتبة ظاهرة حب النسيان، والهروب من الواقع، فتعرِض بعض متاعب الحياة، التي تريد بطلة قصتها التخلص منها، فتذهب إلى مدينة النسيان؛ حيث تجد «كل أهل المدينة أعمارهم واحدة، لا يعرف أحدٌ الآخر، ذاكرتهم ممحاة، يعرفون فقط أسماءهم»، حتى إن الفتاة التي تعرَّفتْ عليها هناك، كانت تنساها بعد أن تقوم من عندها، فتضطر إلى أن تعرِّفها بنفسها من جديد في كل مرة تجلس إليها، وكان لهذا النسيان أثر سيئ على تلك الفتاة، التي «دخلت حديقة القصر لتقطف منها الورد، فقتلها الحراس؛ لأنهم لم يتذكروها»، ومع الصباح الجديد تسقط حادثة القتل من ذاكرتهم، حتى إن تلك الفتاة ضحيَّة النسيان «لم يبكِها أحد، لم يبكِها حتى وردُها؛ لأنه هو الآخر من مدينة النسيان»، حتى البطلة نفسها حين تعرفت على الطفل (رابح) بائع الحلوى؛ نسيت به (خالدة) بائعة الورد، ولكنه أيضًا مثل (خالدة) ليس له ذاكرة، فتعود به البطلة إلى مدينتها التي جاءت منها، وهناك تظهر المفاجأة «ومجرد أن وطئت قدمنا الحيِّز القديم؛ وجدته الشخص الذي أحببته وتركته في هذا التقويم القديم الموحش»، فالإنسان لا يستطيع بالنسيان أن يهرب من واقعه؛ بل نسيانه ذلك ما هو إلا خطوة من خطواته التي تقوده إلى ما يهرب منه.

[ad_2]

Source link

من sanaanow