[ad_1]

يقتحم الدكتور صلاح فضل في كتابه «صدى الذاكرة» المناطق التي يفضّل الآخرون السكوت عنها عادةً لا سيما ما يتعلق بالحياة الخاصة للمؤلف وتحديداً ذكرياته العاطفية وعلاقته بالجنس الآخر عبر مراحل مختلفة من تجربته الشخصية، فضلاً عن موقفه من السلطة السياسية. ورغم أن الكتاب ليس سيرة ذاتية فقط بقدر ما هو سيرة «فكرية وثقافية» أيضاً في بعض فصوله فإن الفصول الأكثر تأثيراً واستحواذاً على القارئ هي تلك المتعلقة بالحياة العاطفية للمؤلف الذي يعد «شيخ النقاد العرب»، وله حضور واسع في المشهد الثقافي العربي.

– شجاعة الاعتراف
صدر الكتاب حديثاً عن هيئة الكتاب المصرية، وفي البداية يؤكد د. فضل (83 عاماً) أنه لطالما عدّ كل من تعرض لبسط طرف من سيرته الذاتية وتجاهل عمداً هذا الجانب الجوهري في حيواتنا جميعاً إما منافقاً وإما مخادعاً. ويحث مَن يعرفهم من الأدباء والمفكرين على أن يتسلحوا بما يقدرون عليه من شجاعة أدبية للبوح والاعتراف بما اقترفوه من «أخطاء» في نظر المجتمع وبخاصة إذا كانوا بلغوا درجة من الشهرة والقيمة تشفع لهم عند القراء وتُكسبهم قدراً من الحصانة التي لا يمنحها الناس سوى لمن يحبهم المجتمع.
ولأنه يؤمن بأهمية هذا البوح فقد أخذ يتذكر طرفاً مما فعله شيوخه الأولون في الأدب العربي الحديث؛ فقد اعترف طه حسين على سبيل المثال بعشقه لزوجته وامتنع عن الخوض فيما عدا ذلك «لأن دينه لها كان فادحاً ووقوعه تحت سطوتها كان محتوماً»، لكنّ معاصريه يعرفون قصة إيثاره لتلميذته الأرستقراطية الجميلة د. سهير القلماوي وحدبه عليها وغرامه المكتوم بها حتى إن بعض تلاميذ «عميد الأدب العربي» حكوا له كيف كان يستنشق عطرها وهي على درج السلم في كلية الآداب فينادي عليها بصوته الشجي «سهير»!
هناك أيضاً حكاية توفيق الحكيم، عميد المسرح العربي، مع فتاة شباك تذاكر الأوبرا في باريس ومن قبلها ما كرره في سيرته من ولعه بـ«أسطوات» أهل الفن والمَغنى والطرب، وقد صرح الحكيم للمؤلف بأن قصة «محسن» في روايته الشهيرة «عودة الروح» هي بالفعل مشاعر صباه في الحب وأن مسألة عدائه المزعوم للمرأة ليس سوى بدعة سيئة في صناعة الصورة مثل «البيريه والعصا والحمار والبرج العاجي» وغيره مما يروق له في ترويجه إعلامياً، لكنّ «حسه كقاضٍ سابق» لم يسمح له بالاعتراف المباشر في سيَره العديدة بما يجرح صورته أو يؤخذ عليه.
ويذكر د. فضل أنه طرح سؤالاً نقدياً على نجيب محفوظ يقول: «لقد أتقنت تمثيل حيوات الرجال والنساء، المجرمين والشرفاء، النبيلات وفتيات الليل، وتجسيد كل الغرائز باقتدار، فكيف استطعت فعل ذلك بتجربتك المباشرة والمحدودة؟»، فأجاب محفوظ بعبارة واحدة: «هل أكون روائيا لو لم أفعل ذلك؟».

– الحب والزواج
يورد الدكتور فضل تفاصيل قصة حبه لرفيقة عمره وزوجته، وكانت معلنة وصريحة منذ كانا طالبين في الجامعة يعرفها الزملاء والأساتذة الذين تطوع اثنان منهم لخطبتها له بعد التخرج، وجاهدا معاً بعد ذلك في رحلة علمية شاقة. دامت هذه العلاقة طوال العمر حتى فرّق الموت بينهما منذ عدة سنوات. ويتساءل: «كيف استطاع تجاوز كل التوترات والمآزق الزوجية التي مرّا بها، وهل يحق له اليوم أن يلحد في حبه الممتد العميق المتجدد؟ وهل يغفر له الأهل والأحباب إن وضع تفانيه وإخلاصه فيه موضع الشك مهما كانت الذرائع والأسباب؟»، يجيب عن كل هذا قائلاً: «لعل أقصى ما يمكن أن أبوح به في هذا السياق هو رصد طبيعة التحولات التي انتابت عواطف الحب الزوجية عبر عقود طويلة، فقد تخليت بعد سنوات لا أستطيع تحديدها عن نزق الحب ولهفته وأشواقه المشبوبة، وأن يصبح لوناً من إدمان وجود الآخر معك، ليس بوسعنا تصور الافتراق عنه أو تحمل الحياة من دونه لكنه لم يعد يملأ عليك كل أقطار نفسك ولا يشغل مساحة جميع اهتماماتك».
ويؤكد في هذا السياق أنه كان يسير وفق معيارين مهمين في علاقته بالجنس الآخر أولهما تربيته القروية وجذور تكوينه الديني، كلاهما يحدّ من نزعة التحرر الغالبة على سلوكه، فبقدر انطلاقه العاطفي المشبوب يظل الجسد «تابوهاً» يصعب اختراقه؛ وبقدر ما يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة لا تزال الثقافة الذكورية تغلبه في اللحظات الحاسمة. ومع أن منظوره قد تبدل كثيراً بفعل الصراع المكتوم والسلمي بينه وبين زوجته الراحلة فقد حملته بذكائها وثقافتها وعشقه لها على أن يتخلى عن مفاهيمه القروية في فرض الرجولة والسعي لإخضاعها، فتعلم منها كيف يحترم عقلها وترفّعها وجمالها.
ويروي هنا واقعة طريفة، إذ يبدو أن الطبيعة المتحفظة والمنغلقة لنشأته الريفية الأولى وتعليمه الأزهري جعله يصاب بما يشبه «عقدة نفسية» تجاه الجنس الآخر، حيث كان يخشى من عدم قدرته على التعامل مع الزميلات والفتيات عموماً، حتى جاء إلى القاهرة واستشار طبيباً متخصصاً فأخضعه لبعض الجلسات الكهربائية الباهظة التكاليف ولكن لم تستطع أن تبعث الثقة لديه! تلك الثقة التي عاودته من خلال التفاعل الاجتماعي مع الأخريات في سياق تلقائي في مرحلة الدراسة الجامعية.
وعرف د. فضل في هذه الفترة من صباه نوعاً من اللهو القروي الطريف فكان ينتهز الفرصة في موسم جني القطن في الحقل ليجلس عند البقعة التي يتكوم فيها المحصول وتأتي إليها الفتيات العاملات لإفراغ ما في جيوبهن من لوزه فتكون فرصة للهو البريء.
كما يروي واقعة أخرى تتعلق بابنة عمته الحسناء «كوكب»، مصدقاً ما شاع في الأسرة من دعابة اقترانهما عندما يكبران، فتوهم أنها ستكون شريكة المستقبل بحكم هذا التوافق الضمني، ويبدو أنها بادلته الشعور ذاته وهما يختبئان من عيون الرقباء ليلهوان بعواطفهما الشابة لهواً بريئاً. لكن سرعان ما أدركت ابنة العمة متغيرات النضج الأنثوي، وأدرك الأهل أنها لا يمكنها أن تنتظر حتى ينتهي من رحلته التعليمية الطويلة الأمد، فقبل والدها شيخ البلد خطبتها لمن يليق بها من الشباب، وكانت صدمتها عنيفة إذ فقدت النطق فجأة، وتعذب كثيراً بنظراتها المتوسلة إليه دون أن يملك لها نفعاً، فهرب من الموقف بطريقة صبيانية وقُدر لها الشفاء من صدمتها بعد معاناة!
يروي أيضاً أنه قبل انتقاله للعاصمة حدث أمر كان له بالغ التأثير على صحته النفسية، حيث انتشرت في وجهه حبوب الشباب بشكل أكثر من المعتاد فاستعانت والدته بطبيب «شعبي» ليعالجه فارتكب أكبر خطأ كان يجب تفاديه حيث قام بتصفية الحبوب وتطهير مكانها مما ترك ندوباً واضحة على وجهه، جاهد لعلاجها دون جدوى فانتقص هذا من وسامته الموروثة عن أبيه. يعلّق على ذلك بنبرة شجن وتحدٍّ: «شعرت أنني فقدت الجمال الذي أنشده في كل شيء وتشكلت لديّ ما تشبه العقدة فحزنت كثيراً في داخلي وعاهدت نفسي أن أعوّض ذلك بالإصرار على التفوق الدراسي من ناحية والاستغراق في القراءة الملحّة من ناحية أخرى، كنت أقرأ كتاباً كاملاً كل يوم في مختلف فروع المعرفة والأدب وأصابتني حمى الشغف بالتميز والسبق وأصبح سحر الكلام الذي أرتشفه وأتمرس بتوظيفه هو الكأس التي تشبع نهمي للجمال بديلاً عن الوسامة!»

– السلطة والمثقف
ومن سلطة المرأة إلى سلطة الدولة والسياسة يتساءل د. صلاح فضل كأنه يحاور نفسه: هل كنت بريئاً من شهوة السلطة بوجهها السياسي حيث لا تحتكر المناصب فحسب بل تحتكر الإعلام وأدوات التواصل وتهمِّش بعنف مَن لا يسير في ركابها؛ وهل كان بوسعي أن أقوم بوظيفتي الفكرية لو ناصبتها العداء السافر؟ وما المسافة الضرورية التي حرصت على اتخاذها كي أحتفظ باستقلالي وأبوح برؤيتي وأتمادى في ممارسة الموقف النقدي في كل تجلياته العديدة؟
يجيب شيخ النقاد العرب عن السؤال بشكل عملي، فيروي كيف جاءت ملابسات تعيينه مستشاراً ثقافياً للسفارة المصرية في العاصمة الإسبانية مدريد بالمصادفة وحدها دون تدخل منه؛ بل كيف قام بترشيح أحد أساتذته للمنصب فتم رفض الترشيح لأن زوجة الأستاذ إسبانية، أي أجنبية، مما يجعله غير مستوفٍ للشروط. ويروي واقعة حضور وفد مصري رفيع المستوى للمشاركة في مؤتمر اقتصادي دولي بمدريد عام 1982 فإذا به يقاطع حفل عشاء للوفد أقامه السفير المصري قائلاً: «لماذا لا نقطع شوطاً حضارياً على طريق التقدم مثلما فعلت إسبانيا التي سبقتنا بآماد طويلة حيث أتابع نهضتها منذ الستينات ولا أدرى لماذا لا نخطط لتجاوز مرحلة التخلف في مصر؟». هنا أصاب الوجوم الحاضرين كأن على رؤوسهم الطير وتساءل أحدهم: «لم نكن نعرف أنك تنتمي للمعارضة؟»، وبالطبع لم يكمل الرجل في منصبه طويلاً بينما تولى أعضاء الوفد المصري مناصب مرموقة وتولى أحدهم رئاسة الحكومة فيما بعد.
يعقب د. فضل على الأمر لافتاً إلى أن هناك شيئين ظل حريصاً عليهما فما يتعلق بغزل السلطة الذي يفتن معظم المثقفين، الأول أنه لم يُضبط في مكان عام بقول أو فعل وهو ينافق السلطة أو يمدح الرؤساء، بل كثيراً ما أوسعهم نقداً من دون تجريم، مطالباً بالحكمة والرشد وتحقيق الحرية والعدل لأن هذه القيم هي التي تصنع حضارة الأمم، أما إعلان العداء المتشنج فلم يقترفه لأنه يطعن في المصداقية ويؤدي إلى الاضطهاد. وقد مر بمراحل كثيرة في عهود سابقة كان فيها نجماً ثقافياً في التلفزيون والصحافة ومراحل أخرى تصاعدت فيه نبرة النقد عنده فلم يُدرج في قوائم الممنوعين صراحةً وإن تفادى الإعلاميون ظهوره معهم لأن مواقفه الداعية للحريات والديمقراطية لم تعد تريح الأجهزة الحاكمة للإعلام. أما الأمر الآخر فهو بثه رسائله السياسية بقوة وعنفوان في كتاباته النقدية، فمنذ خروجه من قوقعة الجامعة إلى الحياة العامة والكتابة بالصحف ومقالاته لا يمكن أن تخلو من تعميق الإحساس بأهمية الحرية والديمقراطية وتداول السلطة والحكم الرشيد، مهما كان موضوعها في الشعر أو الرواية أو الفكر الثقافي، هذه الاستراتيجية حكمت بعض اختياراته لعناوين كتبه مثل «جمالية الحرية في الشعر» و«التمثيل الجمالي للحياة» و«الإبداع شراكة حضارية»!




[ad_2]

Source link

من sanaanow