[ad_1]

حجبت السماء سحب رمادية كئيبة، ومن ثغرات صافية فيروزية، سكبت الشمس أشعتها الذهبية، هنا وهناك، إلا أنها كانت تتوارى ثم تعود. لعبة الشمس والسحاب، وهبوب رياح قادمة من جبال الشمال المكللة بالثلوج، زادا من قساوة موجة البرد الشديدة في ذلك الصباح الضبابي. بلّل الندى الزقاق الترابي الضيق، وتلألأت قطراته على أوراق الأشجار وسعف النخيل، وعلى الأبواب الخشبية الصغيرة الموصدة على عائلات أدمن أفرادها في اليقظة والمنام أحلام الدفء والشبع والمعجزات.

الزقاق هادئ في تلك الساعة من الصباح الأولى، إلا أن نباح كلاب سائبة جائعة انتهك سكونه الموحش. حلّقت منخفضة غربان باحثة عن طعام وملاذ، ووكر بعضها على سعف النخيل المشرئبّ من بعض جدران المنازل الواطئة إلى الزقاق. اقتحمت الريح المُثلجِة دار الخطّاط محمد. توغلت في الدهليز القصير الرطب، حيث حِب الماء وعلب الأصباغ الفارغة المنبعجة، وعصا غليظة تعلوها كرة من الجير مسندة إلى الجدار، وُضعت هناك تحسبا للطوارئ، وليس هناك من طارئ سوى اللصوص، إلا أن هؤلاء، بعد أن تكبّدوا بعض الخسائر بمقتل بعضهم ببنادق السكان، تخلّوا عن المواجهة، لكنّهم تفنّنوا في تسلق الجدران وفتح النوافذ العليا البارزة، أو كسر أقفال الأبواب الخشبية الواهنة في الأحياء الأكثر فقرا، أو حتى قلعها، إذا تطلّب الأمر، في فحمة الليل دونما ضجيج. مدّت الريح طبقة رقيقة شفافة من الصقيع على أرضية الفناء المُعبدة بالفرشي، واستوطنت حجرتي الطابق الأسفل – غرفة الأم والأخرى المحاذية للزقاق معدة لجلوس العائلة- الأم وأبنها الوحيد – ولاستقبال الضيوف. كانت البرودة موجعة أكثر في الطابق العلوي المحتوي على غرفتين؛ غرفة محمد التي كل ما فيها سرير خشبي، ومنضدة ملطخة بالحبر الأسود، تناثرت عليها قصبات للخط مختلفة في عرض نهاياتها، ومرآة كبيرة مثبتة على الحائط، وغرفة ثانية جُمع فيها ما زاد عن الحاجة من شربات وطاسات وحصران بالية. كان الطابق ذا شرفات خشبية مزخرفة ناتئة مطلة على الدرب، ونوافذ بألوان مختلفة، تسمح بدخول الضوء والشمس، وتمنع رؤية ما وراءها، وتُفتح بسحبها إلى الأعلى.

لم يزد أثاث غرفة الضيوف عن حصران من سعف النخيل، فُرش عليها بِساطان صنعا من خرق بالية جمعتها أم محمد وتولى حياكتهما “أبوسمية” الذي لعن مهنته في أواخر عمره لأنها حالت دون زواج ابنته، فمن المعيب الاقتران بابنة حائك يحتم عليه عمله اللقاء بالنساء فقط. يُضاف للبساطين، فراش قطني نظيف نُثرت عليه وسائد محشوة بريش الدجاج والطيور. الحيطان مفقّعة عارية إلا من قطعة فخار زرقاء بحجم الكف ذات سبع عيون لصد شر الحاسدين وطرد الأرواح الشريرة، حظيت باهتمام الأم في مسحها وتلميعها كلما وقع بصرها عليها لاعتقادها الراسخ أنها السبب في بقاء ولدها سليما معافا.

عُلق على الحائط المقابل، قريبا من الباب، سيف قديم منحن صدئ الغمد علاه الغبار. كان كل ما ورثته العائلة عن جد محمد الملقب “سبع الليل”، البطل الغيور، كما سجّلته ذاكرة أهالي محلة العاقولية لأنهم نعموا في أيامه بأمان لم يسبق له مثيل. كان في عنفوان رجولته شقيا، مقداما، غير هيّاب، بسط سطوته على المحلة، وأرعبت سمعته أشقياء المحلات الأخرى، والبدو القاطنين وراء حدود المدينة ممن استساغوا نهب القوافل وقطع الطرق والسطو على منازل المحلة. ظل أهالي المحلة ولسنوات يتناقلون حكايات عن بطولاته النادرة. رووا إنه أختبأ مرة في غابة شمال بغداد عندما كان مطاردا من قبل الجندرمة والدرك الذين خصصوا مكافأة نقدية كبيرة لمن يدلهم على مكانه، إثر عراك له مع شقي آخر، تركه سبع الليل في شلل تام. ذات يوم، اختار الوالي أحمد باشا تلك الغابة ليمارس فيها هوايته في صيد الأسود، ولبيان مبلغ شجاعته وإقدامه، كان يصرّ على ألا يرافقه أيّ شخص من حاشيته البالغ عددهم ثلاثة آلاف فرد كانوا يصحبونه في التنزه والصيد. أثناء تجواله، اعترض طريقه فجأة أسد طلع من حرش هناك، فدافع الوالي عن نفسه، إلا أن سنان رمحه انكسر، ففرّ للاختباء وراء شجرة قريبة. وفي اللحظة التي أطلق الأسد زئيره المدوي استعدادا للوثوب على فريسته، قفز سبع الليل من وراء الأشجار وطعن الأسد ببلطته وأسقطه أرضا، ثم اختفى في الحال مخافة القبض عليه. حين أطمأن أحمد باشا، التفت ليرى الأسد صريعا وبجانبه المراهق سليمان الكرجي، أحد مماليك قصره، فحسبه قاتل ملك الغاب. بعد مدة من الزمن، وصلت أذن الوالي ما تناقله الناس عن جرأة سبع الليل وقتله الأسد، لكنّ الوالي تجاهل تلك الحكايات كي لا يُقال إن شقيا أنقذه من موت محتوم! أما سليمان فقد طار فرحا ببطولة نُسبت إليه وهو ليس صاحبها، وصار بعدها مدللا عند الوالي وموطن ثقته، وارتقى في المناصب حتى أصبح فيما بعد سليمان باشا الكبير، أبوليلة، من أشهر الولاة المماليك في بغداد.

لوحة: جاسم محمد الفضل
لوحة: جاسم محمد الفضل

حمل جسد سبع الليل ندب العشرات من الطعنات في معارك خاضها مع الأشقياء والبدو وأفراد الجندرمة، وحتى مع مردة الجن والطنطل، وهذا ما شهد به عدد من الشيوخ، بعضهم ما زال حيا، أنهم في الليلة الدَيْجُوج التي قُتل فيها وقد جاوز الخمسين، سمعوا – لم يروا بأم أعينهم وأقرّوا في صراحة نادرة أن الهلع أثقل جفونهم ودفن وجوههم في الوسائد، وشل سيقانهم عن الحركة – صوت قرقعة أجنحة هائلة وصدى ضربات عنيفة، تلته صيحات مدوية اهتزت لها منازل محلة الطاطران تقول “اقتلوا سبع الليل.. اقتلوه.” توقع البعض أنه كان هناك يطارد لصوصا، أو أنه كان يتربص خصما، فيما ادّعى أصحاب سوء الظن أنه كان على موعد مع امرأة سيئة السمعة من تلك المحلة، مثلما حاكوا من قبل قصصا للحط من مكانته، منها أنه هو، وليس الخزندار، مسؤول الخزينة، من سطا على خزنة السراي، مع أن التهمة لم تثبت عليه على الرغم من التحقيق والتعذيب طوال شهرين. بعث مقتله حزنا في العاقولية وخوفا من أهوال قد تأتي بها الأيام. في اليوم التالي، سار في جنازته المئات من أهالي محلات بغداد تتقدمهم ثلة من حملة بيارق ورايات القبائل ذات الألوان الصارخة، وسار وراءهم عدد من الأشقياء المعروفين المتسلحين بالسيوف والخناجر والقامات والبلطات غير مباليين بوجود العسكر، مؤكدين بحضورهم، على الرغم من شدة العداوة بينهم، أن الساحة لم ولن تخلو من “الأبطال ذوي الغيرة”. سار بعدهم الشيخ الأحدب المهاب أبوالفتوحات ببطء مباعدا بين ساقيه، متعكزا على عصاه، وبدا أنه اضطر للحضور خشية الاتهام إنه يشارك فقط في تشييع الوجهاء والأغوات تملقا ويتجاهل مكانة الأشقياء المدافعين عن الفقراء، وتبعه عدد من رجال الدين والمختارين والتجار وعامة الناس، ونسوة كن يلطمن صدورهن بحرقة كان قد سارع لنجدتهن. ظل مجلس الفاتحة مشرعا أبوابه طيلة أسبوعين كاملين نحرت خلالهما العشرات من الأغنام حتى أوشك ولده علي على الإفلاس، أو أنه أفلس فعلا. أهل المحلة، ممن هبروا لحوم الفاتحة، لم يكتموا خيبتهم المرة وأسفهم الشديد، لأن ابنه علي الخطّاط، فارق سيرة أبيه ولم يشتهر بالمصارعة والعراك والمبارزة بالسكاكين دفاعا عن أبناء محلته.

على الأرض تحت السيف مباشرة، صندوق خشبي داكن اللون، رُصّع بمسامير على شكل دوائر متداخلة، مربع الشكل طول ضلعه ذراع وربع الذراع، نُضدت عليه أغطية ووسائد تستخدم عند مبيت الضيوف الوافدين من مدن وقرى بعيدة. أما محتويات الصندوق فهي صرر ملابس شتوية وصيفية، نسائية ورجالية، وعباءة من وبر الإبل، ووزرات، وزوجان من الحذاء المعروف بـ”اليمني”، وقلائد من معادن رخيصة، وأقراط وخلاخيل وأساور وخواتم فضية كانت تتزين بها أم محمد في شبابها الغابر، وأوراق قديمة مصفرة مُهرت بخاتم رئيس ديوان “المكتوبي” أجازت فتح دكان للخط، ومسابح وخرز ملونة مختلفة الأحجام، جمعها الراحل علي الخطاط من باعة الـ”خردة فروش”.

كان محمد بن علي الخطاط، المعروف باسم “محمد الخطّاط” و”محمد الأفندي”، في ذلك الصباح من شهر شباط، واقفا بقامته المربوعة، وراء الشباك، كان الشباك الوحيد في الزقاق المطل على الخارج وفتحه “سبع الليل” أيام سطوته وأحجم الجيران عن إبداء استنكارهم، ولم يفعل ذلك للتهوية أو دخول الشمس، بل لكسر العرف السائد. كان محمد ملتفا بلحاف سميك، متكئا بمرفقيه على قاعدة الشباك، رافعا طرفا من ستارة قديمة ذات أزهار قشعت الشمس ألوانها، محاولا تمضية الوقت بانتظار أن تكمل أمه إعداد “منقلة” الفحم، وفي الواقع، لم يكن فيها فحم حجري، بل عيدان وأغصان متفحمة. ارتفع أمامه حلزونيا عمود دخان أسود من المنزل الواطئ المقابل وانتشرت رائحة الحطب المشتعل، مثلما يحدث في تلك الساعة من كل صباح. يظل الدخان متصاعدا من التنور حتى الظهيرة عندما تنهي غنيمة وابنتها اليتيمة، نعيمة التي ناهزت الثامنة عشرة، خبز كومة من الأرغفة تذهب بها الأم لبيعها في سوق الميدان. كان الخطاط الشاب يتلهف لرؤية نعيمة، لكنه ظل كابحا هذه اللهفة المستعرة خاصة أمام أمه، كي لا تستعجله في اتخاذ قرار لم ير أوانه قد حان. كان، كلما صادف نعيمة، يرشقها بنظرات سريعة محاولا عبرها حفظ أكبر عدد من الصور في ذاكرته. كان متيقنا من أنها تبادله ذات المشاعر والأحاسيس، وقد حسب أنه قرأ ذلك في عينيها اللتين يشتد لمعانهما عندما تراه حين تدخل الدار بحجة طلب حاجة، أو مجالسة أمه. كثيرا ما لحظها عند عودته من قلب المدينة واقفة وراء الباب الموارب تنتظر أن تكحل عينيها برؤيته. كان يراها فتاة طيبة فائقة الجمال، فاتنة، تجذبه عيناها الناعستان، وخداها الورديان، وشفتاها اللوزيتان الممتلئتان، ومسحة البراءة والنقاء تكسي وجهها الذي يتوهج احمرارا كلما التقاها. تصورها الآن واقفة أمام التنور وقد أسبلت شعرها الطويل على كتفيها، وشدت على ذراعها اليمنى حتى المرفق قطعة من ثوب قديم اتقاء للهيب التنور، وكلما انحنت لإخراج الأرغفة الناضجة بمنقاشها الطويل، ضغطت رمانتاها النافرتان على أزرار ثوبها فيبان شيء من صدرها البض الذي لم يمسسه بشر. تذكر اللقاء الوحيد الذي جمعهما لوحدهما في ظهيرة أحد الأيام قبل عام تقريبا. دفعت الباب ودخلت، ولا بد أنها طرقت الباب ولم يجبها أحد فخشيت أن يكون شيء ما قد حدث لأمه. كررت النداء على أمه. أيقظه صوتها، وخرج من الغرفة يستطلع الأمر، فرآها أمامه في نهاية الدهليز غير بعيدة عن باب الغرفة. غمرته دهشة أذهلته وأخلت بتوازنه، أما هي فقد جفلت، أو لعلها تعمدت ذلك، لأنها لم تتوقع رؤيته وهي بلا فوطة تخفي ضفيرتي شعرها المرميتين على صدرها. لفّت العباءة بإحكام على منحنيات جسمها، ولاحت على شفتيها القرمزيتين ابتسامة عذبة. حين هدأ روعه، اعتراه فرح غامر، فهو لم يرها منذ مدة كان منهمكا خلالها في كتابة الرسائل أثناء أزمة حصار عشائر البدو لمدينة البصرة.

قال شاعرا بتسارع نبضات قلبه: ذهبت أمي إلى دار جارنا أبي سمية لعيادة زوجته المريضة.

انبرت معلقة برقة “زرت أم سمية البارحة. صحتها تحسنت قليلا بعد أن وصف لها الملا عطية شراب النعناع ورش وجهها بماء الورد. خاف أهلها أن تموت إذا ذهبوا بها إلى البيمارستان. يُقال إن من يدخل البيمارستان لا يخرج منه إلا إلى المقبرة”.

ضحكا معا. حاول أن يقول شيئا، لكن الكلمات ضاعت منه. أطال النظر إليها حتى نسي نفسه. تساءلت بدلال وعذوبة “ماذا؟ لماذا تنظر إليّ هكذا؟”.

– “أنتِ فاتنة جدا”.

ضحكت مخفية وجهها بكفيها خجلا، وأسرعت مغادرة. لم يدر إن كانت عواطفه نحوها إعجابا أو أفتتانا أو حبا. لم يشعر باشتهاء جسدها، بل بروحها وامتلاك قلبها، بمتعته الفائقة في رؤيتها وسماع عذوبة صوتها ورقة كلماته. أهو الحب؟ لم يكن يدري بالضبط ما يخالجه.

تلاشى الضباب الخفيف فبان الزقاق كله. مرّ أمامه ثلاثة عمال بناء حفاة لفوا رؤوسهم ووجوههم بكوفياتهم تاركين فسحة لعيونهم، دافنين أكفهم تحت آباطهم، مثبتين بطريقة مدهشة فؤوسهم على مناكبهم. توقف الرجال الثلاثة عندما اعترض طريقهم قادما من الجهة الأخرى سقاء يجر وراءه حمارا يحمل قربة كبيرة من جلد الماعز مليئة بماء النهر. اضطروا للتراجع إلى نهاية الزقاق فاسحين الطريق للسقّاء وحماره. تراكض أطفال فرحون من أحد الدور إلى بقعة شمس، وما إن جلسوا حتى غابت عنهم فقفزوا إلى بقعة أخرى ملاحقين أشعة الشمس. خففت صيحاتهم وضحكاتهم الرقيقة من كآبة الزقاق وزمهرير البرد.

أمعن النظر في صورته المنعكسة على زجاج الشباك. تساءل مع نفسه إن كان وجهه الحنطي معبّرا عمّا يجول في دواخله، أو فيما إذا كان الآخرون يتعرفون من ملامحه عن حقيقة مشاعره؟ هل يعرف هو نفسه ما درجة شجاعته أو جبنه، ذكائه أو غبائه؟ هل يمكنه التنبؤ بما سيحدث له في اليوم التالي أو في الأسبوع التالي؟ وإلى أي حد؟ إن كان ذكيا حقا، كما تراه أمه في أحاديثها مع جاراتها، هل يملك القدرة على توقع ما سيحصل له في مستقبله القريب؟ كثيرا ما رددت أمه، وكان يصدق ما تقوله، إنه نسخة تامة من أبيه الراحل، الساكن في رأسه. مرر يده على شعره الأسود الذي غطى رقبته ومنتصف صيواني أذنيه. استفزه الشيب الذي غزا فوديه، مع أنه لم يتجاوز الثلاثين. كان ذلك بئس ما ورثه عن أخواله، لكن لم يخالطه أدنى شك في أن عينيه السوداوين الوسيعتين قد ورثهما عن أمه التي احتفظت، وهي الآن في الخمسين، بجمال جرّ عليها حسد نساء الحي وغيرتهن؛ ثغرها الصغير، وأنفها الدقيق، وحور عينيها، وبساقة قامتها، ورشاقة جسمها، وطول ضفائرها الممتدة إلى وركها. كانت، فضلا عن جمالها المتميز، امرأة عاقلة، حصيفة الرأي، حكيمة كثيرا ما طلبت نسوة الزقاق مشورتها في كل كبيرة وصغيرة مما يصادفنه في حياتهن اليومية. الرجال أيضا كانوا يتحدثون عن جمالها المثير ونعتوها “ملكة محلة العاقولية” مع أنهم لم يروا شيئا من ذلك كله، فعند خروجها النادر من المنزل كانت تبدو، بنقاب الوبر الأسود المخرّم على وجهها، والعباءة السوداء الطويلة، كتلة سوداء رشيقة تمشي على الأرض باستقامة وثبات وكأنها تتحرك فوق عجلات، وهي لم تخرج إلا لزيارة جاراتها أو تذهب برفقة محمد إلى منزل أخيها في محلة الشواكة في جانب الكرخ. نقلت النسوة تلك الأوصاف لرجالهن من فرط حسدهن. أصرت بثينة، أم محمد، بعد ترملها، بعناد راسخ على رفض كل من تقدم لخطبتها، مؤكدة أن لا شيء يهمها في هذه الدنيا سوى ولدها، محمد، وليس هناك من أحد يستحق أن يحتل في قلبها مكان حبيبها ابن عمها، زوجها الراحل. كانت فعلا هكذا مُذْ وفاة أبيه، لم تتزين ولم تحف زغب وجهها، ولم تلبس غير السواد.

تأنى محمد في شأن الزواج، فعمله لا يعود عليه إلا بالكفاف، ولم يرغب في استمرار حياته على هذا المنوال البائس، على الرغم من إلحاح أمه مدة طويلة بالزواج من نعيمة خشية أن تُجبر على الزواج من أحد أعوان الوالي أو واحد من المتباهين بعلاقاتهم مع الأتراك المتنفذين القائمة على خضوع مزر وتقديم خدمات وضيعة. أدركت الأم عبث محاولاتها، وظل هو رافضا على الرغم مما تناقله البعض من أهل المحلة من مزاعم على أنه عنين، لأنهم اعتادوا على تزويج أبنائهم وهم في سن مبكرة، واشتط آخرون في ادعاءاتهم بأن الخطّاط شاذ جنسيا، وكان رده دائما قهقهة ساخرة.

[ad_2]

Source link

من sanaanow