[ad_1]

يربط الناقد الروسي دميتري ميريجكوفسكي في كتابه «ليف تولستوي ودوستويفسكي… الحياة والإبداع»، الذي قدّم نسخته العربية المترجم العراقي الدكتور تحسين رزّاق عزيز، وصدر حديثاً عن دار المأمون للترجمة والنشر، بين حياة اثنين من رموز الأدب الروسي، ليف تولستوي، وفيودور دوستويفسكي، وبين إبداعات كل منهما.

في فصول الجزء الأول الذي جاء بعنوان «حياة ليف تولستوي ودوستويفسكي»، ويتكون من 8 فصول، يتتبع المؤلف سيرة كل منهما، التي تسرب بعضها في حالة «دوستويفسكي من خلال مذكرات شقيقه أندريه دوستويفسكي، وبعض معارفه، وكاتب سيرته ستراخوف نيكولاي نيكولاييفيتش مؤلف «ذكريات فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي». وقد كشف ديستويفسكي بنفسه بعضاً من تفاصيل حياته خلال خطابات كان أرسلها لوالده أثناء الدراسة، ثم لأخيه فيما بعد، وبعض أصدقائه، وكانت في معظمها غير مفيدة فيما يختص بأسرار حياته، وجعلت كثيراً من أخباره تتسم بالغموض مثل إصابته بالصرع عندما كان طفلاً.

وعكس حياة ديستويفسكي، تأتي سيرة تولستوي الذي تحدث بنفسه عن كثير مما مر به وعاشه، ولم يدع شيئاً لأحد كي يحكي عنه ويكشف أسراره، ففي عمله «الطفولة والصبا والشباب»، يروي ذكرياته، ويحكى بنفسه فيما بعد عن تفكيره في الانتحار، وحرصه على استقرار أسرته، وتأمين مستقبلها حال وفاته.

ويكشف «ميريجكوفسكي» عن وجود نوع من التناقض بين الكاتبين، فيقارن كرم دوستويفسكي الطبيعي، وميله لبعثرة المال، مع حرص ليف تولستوي، وميله نحو النفور من التبذير.

وفي الجزء الثاني من الكتاب الذي جاء بعنوان «إبداع ليف تولستوي ودوستويفسكي» وتضمن 7 فصول، يتتبع المؤلف شخصيات تولستوي التي رسمها في رواياته «آنا كارنينا» و«السيد والخادم» و«مرض إيفان إيليتش» و«الحرب والسلام» وغيرها، ويشير إلى أنه كان يميل إلى تكرار العلامات الجسدية ذاتها لدى أبطاله، ويقوم بالتأكيد عليها، وهذا يبدو واضحاً حين يتحدث عن الأميرة بولكونسكايا، زوجة الأمير أندريه، في رواية «الحرب والسلام» حيث راح يصف شفتها العليا الجميلة في مواقف كثيرة، وبالتعبيرات نفسها، حين كانت على قيد الحياة، ثم وهي ميتة، وعلى شاهد قبرها، وأخيراً وهو يصف وجه ابنها، ما يجعل «شفة» الأميرة تنطبع في ذاكرة القارئ بوضوح لا يمحى، ويقوم تولستوي بالأمر نفسه مع الأميرة ماريا بولكونسكايا، فيذكر أن لديها أقداماً ثقيلة يمكن سماع وقعها من بعيد، وأن وجهها حين يحمَرّ يكتسي بالبقع.

ويلفت المؤلف إلى أن هذه العلامات، التي يركز تولستوي على تكرارها، وهو يصف شخصياته، ترتبط في الواقع بالخصائص الروحية الداخلية العميقة والمهمة للغاية للشخصيات، وتصور الحالة الداخلية لها ومواقفها خلال الأحداث؛ حيث ينقلنا أسلوب تولستوي مِن المرئي إلى غير المرئي، ومِن الخارجي إلى الداخلي، ومِن الجسدي إلى الروحي، أو «النفسي»، وفي بعض الأحيان، ترتبط هذه العلامات المتكررة في المظهر الخارجي للشخصيات في العمل الفني بعمق الفكرة الأساسية للعمل بأكمله وبمحور حركته.

ويذكر ميريجكوفسكي أن تولستوي يلحّ على القارئ، ولا يخشى أن يضجره، ويعمق العلامة الفارقة، ويكرر، ويصر، ويراكم التوصيفات، ليعطينا كثيراً عن شخصياته حتى لا يبقى لدينا ما نتمناه، فهو يتحدث عن الظلال السوداء العميقة التي لا يمكن اختراقها وأشعة الضوء المفاجئ، الذي يشتعل فجأة ليُخرج من الظلام بعض السمات الخاصة لأبطاله، التي تتجلى في عري أجسادهم، وثنيات ملابسهم ووجههم المشوهة بالعاطفة أو المعاناة، التي يمنحها تولستوي حيوية مذهلة، تكاد تكون مخيفة.

ويعتقد ميريجكوفسكي أنه «لا يوجد في الأدب العالمي كاتب يضاهي ليف تولستوي في تصوير جسد الإنسان من خلال كلمات دقيقة وبسيطة ومختصرة حيث يختار القليل فقط من السمات الشخصية الصغيرة غير الملحوظة والمميَّزة ولا يُدرجها على الفور، بل بالتدريج، واحدة تلو أخرى، ويوزعها على مدار السرد ويُلحِقها في حركة الحوادث ويضيفها في حياكة النسيج الحي للرواية، من خلال ذلك الجانب من الجسد الذي يتحول إلى الروح، والجانب من الروح، الذي يتحول إلى جسد».

من هنا يمكن القول، حسب الكاتب، إن مجد تولستوي يكمن في كونه أول من عبّر بصدق جريء عن هذا المجال الجديد من الحساسية الجسدية والروحية، الذي لم يوفِه حقه أحد، والذي لا ينضب أبداً؛ فعندما يكون الإحساس دقيقاً وجديداً لدرجة أنه لم يعد من الممكن التعبير عنه من خلال أي توليفة من الكلمات، نراه يستخدم تراكيب من بعض الأصوات، بطريقة التعبير التي يستخدمها الأطفال والناس البدائيين عند إنشاء اللغات، أي محاكاة الأصوات.

أما عن تصوير الشخصيات البشرية لدى ليف تولستوي من وجهة نظر «ميريجكوفسكي» فهو يشبه تلك الأجسام البشرية شبه المحدبة على النقوش البارزة، وكأنها على وشك الانفصال عن السطوح المُنبَسِطة التي تحملها، يصورها مثل التماثيل الكاملة، المرئية من جميع الجوانب.

ويكشف ميريجكوفسكي أن مركز الثقل الفني وقوة التعبير في أعمال تولستوي لا يتركز في الجزء الدرامي، بل في الجزء السردي، كما أنه ليس في حوارات الشخصيات، ولا فيما يتكلمون به، بل فيما يُقال عنهم فقط، لا توجد في أعمال ليف تولستوي طباع، ولا هويات فردية، ولا شخصيات مسرحية، بل هناك متأملون؛ لا يوجد أبطال، لكن هناك ضحايا يستسلمون لتيار الحياة البهيمية العفوية الذي يحملهم بعيداً، إنَّ أبطال تولستوي ليسوا أبطالاً بقدر ما هم ضحايا، وبما أنه لا توجد إرادة بطولية واحدة تسود على الجميع، فلا يوجد عمل مأساوي واحد موحد، هناك عُقَد مأساوية منفصلة فقط، وحُبكات، وموجات منفصلة ترتفع وتنخفض في حركة لا حدود لها، لا يوجّهها تيار داخلي، بل توجهها قوى عفوية خارجية.

ويَعُد مؤلف الكتاب أن روايتي «الحرب والسلام»، و«آنا كارينينا»، أدباً ملحمياً حقيقياً، لا يتركز مركز الثقل الفني بها في حوارات الشخصيات، بل في السرد؛ وليس فيما يقول الأبطال، بل فيما يُقال عنهم؛ وليس فيما نسمعه بآذاننا، بل فيما نراه بأعيننا.

أما عن الأبطال والضحايا الرئيسيين لدى ليف تولستوي فيبدون جميعاً أذكياء وصادقين وطيبين، وودودين، وبسطاء؛ ومع ذلك فنحن لسنا مرتاحين معهم. يوجد فيهم شيء مزعج، مؤلم، غامض، ويبدو مخيفاً أيضاً في بعض الأحيان؛ حيث تفوح منهم جميعاً، حتى الفتيات الأكثر براءة، ذوات السحر الأنقى، رائحة الغابة، والحيوانات.

وعندما يأتي الحديث عن ديستويفسكي يذكر مؤلف الكتاب أنه لا يوجد في الأدب من جميع القرون والشعوب كاتب مقابل لليف تولستوي سوى دوستويفسكي، ففي جميع أعماله تصل شخصية الإنسان، إلى حدودها النهائية، وتنمو وتتطور من الجذور الحيوانية، العفوية، المظلمة إلى أعلى قمم الروحانية المُضيئة، وفي جميع رواياته هناك ثمة صراع للإرادة البطولية مع عنصر الواجب الأخلاقي والضمير في «راسكولنيكوف»؛ ومع عنصر الشهوانية المصقولة الواعية في «سفيدريغايلوف» و«فيرسيلوف»؛ ومع عنصر الشهوانية البدائية، غير الواعية في «روغوجين»؛ ومع عناصر الشعب والدولة والسياسة في «بيتر فيرخوفينسكي» و«ستافروغين» و«شاتوف»، وأخيراً مع عنصر الأسرار الميتافيزيقية والدينية في «إيفان كارامازوف»، و«الأمير ميشكين»، و«كيريلوف».

هكذا يعارض أبطال دوستويفسكي أنفسهم بحزم من خلال قوى الطبيعة التي تستحوذ عليهم، ويؤكدون «الأنا» خاصتهم، ويؤكدون شخصيتهم، ويعلنون عن إرادتهم في موتهم ذاته. بهذا المعنى، فإن الاستكانة المسيحية لدى أليوشا «الأبله»، و«زوسيما» هي مقاومة لا تُقهَر للعالم الوثني، ووفقاً لغلبة صراع الأبطال، فإن أعمال دوستويفسكي الرئيسة في جوهرها ليست روايات على الإطلاق، ولا ملاحم، بل هي مآسٍ.

ويعتبر «ميريجكوفسكي» أن الجزء السردي لدى دوستويفسكي ثانوي، ومساعد في هيكلة العمل بأكمله، أما الحوار لديه فتتركز فيه كل قوة التصوير الفنية؛ فخلاله ينعقد كل شيء في الحوار، وكل شيء يحل فيه. لا يوجد في الأدب الحديث كله، كما يذهب، كاتب يضاهي دوستويفسكي في إتقان الحوار، إنه لا يحتاج أنْ يصف مظهر شخصياته الخارجي، فهم أنفسهم، بخصائص اللغة وبطبيعة الصوت، لا يصورون أفكارهم ومشاعرهم فحسب، بل يصورون أيضاً وجوههم وأجسادهم. ويحقق للمظهر الجسدي وضوحاً بطريقة معاكسة، حين ينطلق من الداخلي إلى الخارجي، ومن الروحي إلى الجسدي، ومن الواعي والإنساني إلى العفوي والبهيمي.




[ad_2]

Source link

من sanaanow