[ad_1]

لعل هذه الأسئلة وغيرها تمكّننا من تحديد طريق نسلكه لنعرف سر الإشكالية في فهم تجربة حسب الشيخ جعفر الشعرية. وأعني بالإشكالية هذا الترداد والتكرار لظاهرة التدوير في دراسة تجربته وترك مسائل أخرى مهمة في شعره.

قد يبدو السبب متجسداً في برم نقادنا بعضهم من الآخر أو تنافسهم فيما بينهم أو قد يكون السبب محصوراً في هذا التراجع الواضح في مستويات البحث الأكاديمي الذي جعل التكرار أمراً يقابله الاستسهال واللامبالاة أو ربما السبب كامن في أن مهمة الناقد الجديد تغيرت إذ لم تعد الغاية تتجلى في نقد بنائي يهتم بدواخل النصوص وتفسيرها، بل صارت الغاية الجري وراء النقد الانطباعي الذي هو نقد ترضيات وإخوانيات وتحبيب وترغيب وتطبيل وتهويل وتقريب وتهوين من دون تمييز لمبدع عن غيره، أما طمعاً في الكسب أو من أجل بلوغ موقع أو الظفر بشهرة تؤهل صاحبها أن ينال ما ليس له.

وبسبب هذا الاستسهال وتلك الطارئية صار النقد جسراً يمرّ عليه المتناقد والنويقد وهما يخبطان ويخلطان واضعين الحروف بلا نقاط، والخطير أن هؤلاء الطارئين صاروا من الكثرة التي تغلب القلة من الذين لديهم منهجياتهم وفرضياتهم التي بها يتحصلون المحصلات بموضوعية ودقة علمية.

أقول هذا وأنا بصدد نقد قصيدة حسب الشيخ جعفر وما حصدته من تكرار لمقولة التدوير، وهل أنّ هذا الذي حصدته من النقاد عراقيين وعرباً كان في جانبها أعني أنه ساهم في دعم الشاعر ودفع به قُدماً نحو مزيد من التجريب أو بالعكس أثناه عن خطه التجريبي وقلل من قيمة ما أبدعه وأضافه إلى الشعرية العربية؟

بالطبع للشاعر حسب الشيخ جعفر منزلة لا مجادلة فيها ولا مزايدة عليها، فلقد نال ما يستحقه لا بسبب النقد الذي كشف عن تميزه ولكن بالتجريب في الشعر الذي مارسه حتى استطاع أن يحقق بعضاً مما أراده وربما كله.

ولا مجال للوقوف على ماهية تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر الواعية والأصيلة إلا بنقد يكافئها في الوعي والأصالة ليكون عيّنة إجرائية مقبولة، فيها من التحصيلات ما يجعلها جديرة بأن تكون منطلقاً يهدي القراء إلى مظاهر القصيدة الحسبية، وأعني بالعيّنة الشاعر والناقد الدكتور خالد علي مصطفى الذي كان شاهد عيان على موجات التحديث التي طرأت على القصيدة العربية إبّان القرن الماضي، بل كان هو نفسه واحداً من أربعة شعراء هم فاضل العزاوي وسامي مهدي وفوزي كريم قد ابتدعوا لأول مرة كتابة بيان شعري عام 1969 وفيه وضعوا تصورهم النقدي للقصيدة التي يكتبونها متفقين على أسس وقواعد راهنوا عليها، محاكين بذلك البيانات التأسيسية للحركات والمذاهب الغربية كحركة السرياليين والفيمنستيين والموندريزميين.

ولعل إحساس شعراء البيان الأربعة بضرورة المغايرة هو الذي دفعهم نحو التوقيع على هذا البيان.

ولقد كان الدكتور خالد علي مصطفى شاعرا متمكنا من قصيدة التفعيلة ـ وكان يفضل تسميتها بالقصيدة الحرة ـ وناقدا ذا صوت نقدي مميز بآرائه الحادة والمتطرفة أحيانا متمتعا بصيت ثقافي يغمطه عليه الكثيرون وظل متمتعا بهذه الميزات إلى أن وافاه الأجل عام 2019.

وفي آخر بحوثه المنشورة بعيد وفاته وهو كتابه “شعراء خارج البيان الشعري” الذي صدر ببغداد عام 2020 درس ثلاث تجارب ـــ أو كما سماها هو “محاولات في كتابة قصيدة التفعيلة” ـــ درس فيها تجربة حسب الشيخ جعفر وتجربة حميد سعيد وتجربة سركون بولص.

وإذا كان الناقد قد خصَّ الشاعر حميد سعيد بدراسة ظاهرة محددة في شعره وهي تحولاته على مستوى الموضوع وما رافق هذا التحول من تغييرات إيقاعية، وخص سركون بولص بدراسة خصائص قصيدة النثر عنده وأسباب إهماله لشعره الموزون، فإنه خص الشاعر حسب الشيخ جعفر بدراسة التدوير وذلك في الفصل الأول المعنون “حسب الشيخ جعفر: لهاث القصيدة المدورة”.

وقبل أن نبدأ في تقصي ما اشتغل عليه د. خالد علي مصطفى في دراسة ظاهرة التدوير في شعر حسب ـ التي تكرر تناولها عند كثير من نقادنا ـ علينا أن نؤكد مسألة مهمة تميزت بها نقود د. مصطفى وهي نزعته التراثية التي تجلت في اهتمامه بدراسة موسيقى الشعر ونقد الأوزان وإيقاعاتها وما يكتنفها من اعتلالات وما يرافقها من زحافات، وذلك بحكم خلفيته كشاعر ذي ذائقة معتدة بالقصيدة التقليدية (العمود الشعري) وهذه هي المفارقة في جمعه بين المرجعيات التقليدية المتجذرة أصولها في القديم وبين النقد ذي التوجهات الحداثية بحثا عن التجديد والتطوير. ولعل هذه المفارقة هي التي جعلت شخصيته متصدية إن لم نقل تصادمية، فهي تبدو في الظاهر مدافعة عن التجديد بينما هي في داخلها تدافع عن القديم وتفضله.

وتبقى النزعة التقليدية في الانبهار بالقصيدة العمودية هي الغالبة عليه، ومهما حاول في كثير من كتاباته أن يبدو متقبلا أنواعا شعرية مستحدثة استشعارا منه بأن التجريب سائر إلى الأمام ومن ثم لا بد من التسليم بالأمر الواقع ومجاراته بأيّ طريقة، فإنه مع ذلك يظل ناقدا مشدودا إلى العمود بخيط خفي، وهو ما يتضح في ترصداته الدؤوبة لمزالق الإيقاعات والتفعيلات.

وهذا الذي نؤشره في ناقدية الدكتور مصطفى له تبعاته المهمة في نقد ظاهرة التدوير في قصيدة حسب الشيخ جعفر. وإذا كان الناقد يقر للشاعر حميد سعيد بالتجريب، فإنه في دراسته عن حسب الشيخ جعفر لم يستعمل كلمة التجريب أصلا، بل وردت كلمة “المشروع” لمرة واحدة وهو بصدد الحديث عن كتابة حسب الشيخ جعفر للسونيت الشكسبيري.

ولقد مهد الدكتور مصطفى لتحليل ظاهرة التدوير بوقفتين استذكر فيهما محطتين كان قد التقى خلالهما بالشاعر حسب. وأول محطة قصيدة قرأها في مجلة الآداب البيروتية وهي “المرفأ المقفر” لكنه لم يتذكر عنوانها ولا تاريخ نشرها، بل وصف مضمونها فقط. وستكون لنا حول هذه القصيدة وقفة خاصة نظرا لمركزيتها بالنسبة إلى تجربة حسب الشيخ جعفر ولحساسية موقف الناقد منها إذ اكتفى بالإشارة إلى أنها كانت سببا في تعرفه إلى الشاعر ولكنه لم يشر إلى مدى علاقتها بالتحديث في القصيدة الحسبية.

وبالطبع كانت إشارة الناقد ذكية إلى هذه القصيدة التي ولدت ولادة طبيعية معلنة عن تجربة فريدة سيكون لها خطها التجديدي في الشعر العراقي، بيد أن تركه الكلام عنها أخذه في اتجاه الكلام عن الشاعر الذي صارت صورته مقرونة عنده بصورة القبّرة لينتقل بسرعة إلى المحطة الثانية، وما بينها وبين المحطة الأولى عشرون عاما وفيها يكتب حسب الشيخ جعفر السونيت كتحول مفصلي داوم عليه بمهارة لكن طريقة تعبير الناقد عن هذا التحول جعلته يبدو للوهلة الأولى تلقائيا وبسيطا وبلا مركزية.

وكل الذي ذكره الناقد في هذه المحطة الاستذكارية هو أنهما عزما على التنافس في ما كان حسب مجرّباً فيه مدة عقدين حتى اختمر تجريبه وأعني به كتابة قصيدة مبنية على قالب السونيت، يقول الناقد “اتفق لنا أن تحدثنا معا ـ حسب وأنا ـ عن طبيعة قالب السونيت بنظام القافية الشكسبيري ( أب أب، ج دج د، ه وه و، زز) عقدنا العزم على أن ينظم كل واحد منا عددا منها يساوي عدد سونيتات شكسبير (154 سونيتا) وذيّل حاشية الصفحة بهذا الاستدراك (لا أذكر أني نظمت قبل هذا الحديث بيني وبين حسب مجموعة من السونيتات لكن من دون أن تكون مشروعا نشرت في مجموعتي غزل في الجحيم الصادر عن دار الشؤون الثقافية بغداد 1993” [1]، وكانت نتيجة هذا التباري محسومة سابقا لصالح حسب الشيخ جعفر لا لشيء سوى أنه ميدانه الذي توضح مع أول قصيدة نشرت له في مجلة عربية معروفة.

وبهذا يكون أمر التدوير في شعر حسب تبعة من تبعات تجريبه كتابة هذا النوع الشعري الذي هو غربي النشأة، فأراد حسب ضمه في جنس قصيدة التفعيلة. بمعنى أن الأصل في ما قصده الشاعر حسب الشيخ جعفر هو السونيت الذي كان التدوير تبعة من تبعاته لكن النقاد تركوا هذا الأصل وتمسكوا بالتابع مهتمين بالتدوير وحده.. نظرا لما فيه من مساحات واسعة من التجريب قادرة على احتواء مسائل الحياة المتنوعة.

وبسبب ولع الناقد بالأوزان وإيقاعية ترتيبها صار التدوير بالنسبة إليه فرضية حاول إثباتها بأمرين: أولا سحب أولوية ابتداع التدوير من حسب وإثباتها لشعراء آخرين، وثانيا اعتبار قصيدة حسب “قارة سابعة” هي أول قصيدة اعتمدت التدوير. وسنتناول هذين الأمرين بالتفصيل فيما يأتي.

تفنيده أسبقية التدوير

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

على الرغم من أن الناقد في استذكاراته كان قد أكد أنه متابع جيد لمراحل التحول في كتابة القصيدة عند حسب الشيخ جعفر، مشيرا إلى امتلاك الشاعر موهبة (ذات دفق حيوي) فإنه ظل ـ في ما مضى فيه حسب من تدوير ـ يلّمح لمسألة التطبع مستنداً إلى ابن قتيبة. وهذا يدلل على أن مرجعيات الناقد في تحليل هذه الظاهرة الجديدة هي مرجعيات كلاسيكية مستمدة من الإرث النقدي العربي ومعتمدة عليه [2]. أما لماذا غلب التطبع على قصيدة حسب الشيخ جعفر فلثلاث سمات اندمجت في شعره حتى لا يمكن فصلها وتسببت ـ بحسب الناقد ـ في بروز الظاهرة التدويرية وهي: أولا أن شعر حسب لم يتعرض لضغط أيديولوجي، وثانيا أن قصائده المدورة تتركز في بؤرتي الريف والمدينة، ويتأتى الأمر الثالث من انصرافه الكلي إلى القصيدة المدورة لتكون “القصيدة المدورة ظاهرة خاصة في الشعر العراقي الحديث بله العربي”. وهذا يعني أن شعر حسب الشيخ جعفر في ما عدا ظاهرة التدوير ليس ذا أهمية فهو مجرد عودة إلى “أصول الشعر الحر.. المورد الشعري الذي هبطوا إليه من المكان الأرفع أو الذي صعدوا إليه” أي القصيدة العمودية التي لها في لاوعي د. خالد علي مصطفى ميل ونزوع كبيران يداري عليهما بوعيه النقدي.

وبعد أن أكد الناقد مسألة التطبع راح يمضي في توكيد لا أحقية حسب الشيخ جعفر في أن يكون سبّاقا في تدوير قصيدة التفعيلة أولا بقصيدة ادونيس “هذا هو اسمي” التي رآها أثرَّت في حسب الشيخ جعفر ودفعته نحو التدوير “لم تمض بضعة أشهر على نشر قصيدة أدونيس حتى طالعتنا مجلة الكلمة.. بقصيدة للشاعر حسب الشيخ جعفر بعنوان ‘قارة سابعة’ تنهج في تنفيذ إيقاعها نهج ‘هذا هو اسمي’ من حيث التدوير ولكن على بحر الرجز (مستفعلن) مع ما يلحقها من زحافات.. إن حسب الشيخ جعفر رأى في ‘هذا هو اسمي’ أسلوبا إيقاعيا جديرا أن يستثمر إلى الحد الذي يجعله ظاهرة إيقاعية مقرونة باسمه أو في الأقل يكون فيها مشاركا في ركوب هذا المركب من موسيقى الشعر المسترسلة وهذا ما حدث”. وفي موضع آخر قال “قصيدة أدونيس هذه هي التي أشعلت جمرة التدوير في شعر حسب الشيخ جعفر” وكأن الشاعر تقصّد التدوير ولم يتقصد السونيت ثم أن هذا الربط للتدوير بالإيقاع سيفنده الناقد بنفسه فيما سيأتي من دراسته ليكون تجاهله تجريب حسب للسونيت واضحا وهو ينشغل عنه بأمر جانبي هو التدوير.

وجدير بالذكر أن قصيدة “هذا هو اسمي” طويلة وكتبت مطلع 1969 وهو العام الذي زار فيه أدونيس بغداد لأول مرة بمناسبة انعقاد مؤتمر الأدباء والكتاب العرب ومهرجان الشعر التاسع. علما أن الناقد طراد الكبيسي كان قد أشار إلى أن أدونيس لم يقرأ القصيدة في هذا المهرجان بل فضَّل قراءتها في جلسة خاصة ضمت شعراء البيان الأربعة وغيرهم، والسبب برأيه ما سمعه أدونيس من “نمط الشعر الذي يقرأ في ذلك المهرجان ومعظمه من الشعر التقليدي”.

ولقد أتعب الناقد خالد علي مصطفى نفسه كثيرا وهو يفتش في نصوص الشعراء المجايلين لحسب الشيخ جعفر وسابقيه بحثا عن قصائد فيها تدوير للجملة صوتا أو دلالة وتوكيدا لرأيه في أن ظاهرة التدوير ليست اشتغالاً حسبياً خاصاً، بل هو أمر عرفه الشعراء وله جذور “ضاربة” في شعرنا القديم والحديث. فوجده عند الشيخ جلال الحنفي ومصطفى جمال الدين اللذين كتبا القصيدة المدورة وكذلك عند علي أحمد باكثير في ترجمته مسرحية لشكسبير، كما أن يوسف الخال كتب قصيدتين إحداهما عام 1958 تجريان مجرى التدوير على بحر الخفيف وقصيدتين أخريين لخليل خوري نشرتا عام 1963 وقصيدة ليوسف الخطيب نشرت عام 1962 .

ولما حلل الناقد عروض التدوير ووجد تباينا في أوزان الأسطر وبحورها فتارة تبدو كتضمين وتارة أخرى تبدو على نمط البند، فإنه انتهى إلى نتيجة خيبت أفق توقعه وهي أن ليس للتدوير بحر أو إيقاع محددان، وإنما هو توافق جملة ايقاعات مع بعضها بعضا “هذا يعني ـ والكلام للناقد ـ أن التدوير حين ألغى البيت والشطر والقافية قد نقل الإيقاع إلى الجملة ولاسيما إذا كانت منفصلة عن غيرها نحويا أو متصلة بها عروضيا”.

وهذا الاشتراط الأخير سيراهن عليه الناقد من جديد أيضا مارا بذات المشقة التي مر بها في التنقيب عن قصائد مدورة نشرت قبل 1963، باحثا هذه المرة عن نصوص شعرية ملائمة، فيها السطر مكتمل دلالياً ومتصل بما بعده صوتياً. والخلاصة – بعد جهد غير قليل في مجزوءات البحور وتقطيع الأوزان وما فيها من الزحافات والعلل – كانت مخيبة لأفق توقعه أيضا، إذ لا اشتراط يمكن الوصول إليه أو الارتكان عليه في دراسة ظاهرة التدوير.

وهنا نتساءل إذا كان الناقد مقتنعاً أنّ قصيدة “قارة سابعة” المنشورة في مجلة الكلمة العدد الثاني 1969 هي أول شعر حسب المدوّر تأثرا بقصيدة أدونيس، فلماذا إذن بحث عن قصائد نشرت قبل 1963 أي قبل نشر قصيدة المرفأ المقفر عام 1962؟

لا نجد إجابة سوى أن الناقد نسي أمر قصيدة “المرفأ المقفر” كأول نص قرأه لحسب الشيخ جعفر، وكان حرياً به أن يقف عند هذه القصيدة ويحللها بوصفه أول الشاهدين على أن لحسب فيها تميزاً فنياً.

تفنيده التدوير في قصيدة “قارة سابعة”

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

على الرغم من أن الناقد كان قد توصل فيما سبق إلى أن التدوير ألغى إيقاع السطر الوزني وأحلّ بدله إيقاع الجملة أي أن نظام التدوير مرهون بالمستوى الدلالي وليس بالمستوى الصوتي، فإنه سيشغل نفسه بتفنيد هذا التحصيل عند حسب أيضا.

وبغض النظر عن التكلف في أمر هذا التفنيد، فإن من المسائل المعتادة في شعرنا اليوم أن التدوير سبب مهم في التمهيد لسيادة قصيدة النثر متفوقة على قصيدة التفعيلة وها هي اليوم جنس شعري شأنها شأن قصيدتي العمود والتفعيلة. حتى أن كثيرا ممن كانوا يكتبون التفعيلة صاروا شعراء مميزين في كتابة قصيدة النثر ومنهم حسب نفسه ومعه الشاعر سركون بولص وعبدالرحمن طهمازي وصلاح فايق وكاظم الحجاج وغيرهم كثير.

ولكي يفند الناقد توظيف التدوير في شعر حسب الشيخ جعفر اختار قصيدة “قارة سابعة” معتبرا إياها أول قصيدة نحت هذا المنحى المدور، متتبعاً عروض أسطرها، باحثاً عن أسطر مرتبطة صوتيا أو دلاليا بما بعدها. وقصده أن يثبت هشاشة التدوير فيها عبر الوقوع على جمل مستقلة دلاليا لكنها متصلة إيقاعيا بما بعدها بمعنى أن إيقاعها يحتاج إلى أن يكتمل تفعيليا بالجملة بعدها.. فهل تمكّن الناقد من إثبات هذا الأمر؟

لقد وجد الناقد أن قراءة المقطع تتطلب صوتا مسموعا وتصورا ذهنيا غير مسموع وهو ما يحتاج إلى “قارئ مثالي قادر على إدراك التفاوت بين الاستقلال الدلالي والاتصال العروضي .. وهذه لا يؤتاها إلا كل ذي حظ عظيم”.

وإذا كان “التفاوت” بهذا التعصي بحيث يحتاج الى قارئ مثالي ذي حظ عظيم، فلماذا إذن علينا أن نتقصى مواضعه ما دام وجود التفاوت مجرد استثناء ليس من وراء تتبعه سوى التكلف الذي حمل الناقد على ترك قصيدة “قارة سابقة” والاتجاه نحو قصيدة “هذا هو اسمي” باحثا فيها عن هذا التفاوت فتوصل إلى وجود “ايقاع نثري يتلامح فيه الوزن من بعيد” فلم يؤاخذ أدونيس بحجة ما عده “الاستعاضة والتخفيف من وطأة التدوير”.

وبحث عن جمل تامة دلاليا في قصيدتي “الرباعية” و”زيارة السيدة السومرية” فوجد أن الايقاع فيها متصل وأن التدوير يقوم على تنوع إيقاعي ـ سماه وهو بصدد أدونيس “الإيقاع النثري” ـ وانتهى إلى وسم قصيدة حسب الشيخ جعفر بالتصادم الصوري والانتقالات المفاجئة ووضع العجائبي مع المألوف والاستقرار على بناء القصيدة على بحر واحد فضلا عن اتّباع شعر حسب للأصول التي استند إليها إليوت.

ومعلوم أن الفصل والوصل ظاهرتان معروفتان في القصيدة القديمة مثلما هما معروفتان في شعر أيّ أمّة وفي النصوص المقدسة أيضا. وقد درسه جان كوهن في كتابه “بنية اللغة الشعرية” وطبقه على الشعر الفرنسي كما درسه الناقد د. شجاع العاني تحت مسمى الانقطاع والمجاورة وتتبعهما في الشعر العربي القديم والحديث.

ولئن كانت محصلات دراسة التدوير مخيبة لأفق التوقع، انتقل الناقد من دراسة الإيقاع إلى دراسة الأسلوب. وبدأ بصيغة الخطاب في قصيدة “قارة سابعة” ليجد أنها “متأثرة” أيضا بقصيدة “هذا هو اسمي” لأدونيس. وبعد سلسلة مقارنات بين أبيات هاتين القصيدتين، انتهى إلى وجود اختلاف بينهما في وجهة النظر الأيديولوجية ليكون حسب الشيخ جعفر في هذه القصيدة، متأثرا من ناحيتي استعمال التكرار واستعمال اللغة اليومية والتيار الشعوري بالشاعرين إليوت في “الأرض اليباب” وسان جون بيرس في “ضيقة هي المراكب”.

واستند الناقد في ملاحقة الشاعر بكل هذه التأثيرات إلى الهوامش التي ثُبتت في نهاية ديوان “زيارة السيدة السومرية”. وعلى الرغم من أن الناقد أشار إلى أن هذه الهوامش تأتي من باب التناص، فإنه مضى في توكيد تأثر حسب الشيخ جعفر بالشعراء السابقين لاسيما إليوت بما سماه “منهج تصور الرؤية الشعرية”.

والغريب أن الناقد خالد علي مصطفى مثلما استدرك على ما أدعاه من تأثر حسب بأدونيس باختلاف وجهة النظر الأيديولوجية، استدرك هنا أيضا مؤكدا أن هناك اختلافا بين إليوت وحسب الشيخ جعفر في وجهة النظر الدنيوية والدينية.

ومعلوم أن التكرار والتناص والتضمين والقطع والوصل سمات بنائية وملامح أسلوبية عرفتها القصيدة قديما كما عرفتها حديثا. وما من نص شعري إلا هو حصيلة متراكمات تلك السمات والملامح، ولا يستثنى من هذا المتراكم أيّ من الشعراء بمن فيهم أدونيس وإليوت.. ناهيك عن تناسي الناقد لتأثر حسب الشيخ جعفر بشعراء روس كبار منهم بوشكين وألكساندر بلوك .

ومن المسائل الأسلوبية التي درسها الناقد “المفارقة” في قصيدة “الرباعية الثالثة” وموقع المرأة في قصائد “قارة سابعة” و”الرباعيات الثلاث” و”هبوط أبي نواس” وحلل ما فيها من توظيف لتقانة القناع بيد أن الغريب هو معاودة الناقد مجددا دراسة الإيقاع وتحولاته في البحر الواحد أو بالانتقال من بحر إلى بحر.

والاستغراب من هذه العودة ليس لأنها أخلّت بمنهجية الدراسة، بل لأنها عودة حمّلت الأسلوب الشعري ما لا يحتمله. فكان الأجدى أن تتم دراسة المفارقة والقناع ضمن مبحث الإيقاع، نظرا لما فيهما من سمات صوتية ناجمة عن التحول الدلالي.

وفي الوقت الذي يعترف فيه الناقد أن “القصيدة المدورة ذات إيقاع قريب من النثر الغنائي”، فإنه في تحليل أسطر بعض قصائد ديوان “زيارة السيدة السومرية” ينفي ما تقدم، طالبا المزيد وهو يقطع التفعيلات، مبينا أن ما فيها من تباين في النسق الايقاعي أدى إلى تنوع عروضي سواء في بناء القصيدة على بحر واحد أو بنائها على أكثر من بحر. فتعاقب في قصيدة “الرباعية الثالثة” بحرا المتقارب والرمل وفي موضع آخر أضاف الناقد الرجز “من دون أن يؤدي هذا التعاقب إلى تحول في السرد المونولوجي المعتمد على تداعي المعاني” مبينا أن هذا الأمر يختلف مع الانتقال من الوزن المدور إلى الوزن الحر (كذا). كما لاحظ أن الوزن المدور جاء حوارا غير منطوق ساخر والوزن الحر جاء غنائيا تراجيديا. وهو ما نجد فيه نقدا متمحلا يحاول افتراض وجود “تحولات إيقاعية بما يناسب التغيير الأسلوبي”.

وستكون النتيجة المتحصلة من وراء ما تقدم مفروغا منها وهي أن “طريقة الشاعر حسب الشيخ جعفر في القصيدة المدورة ظلت وقفاً عليه بغض النظر عن مرجعياتها، ولم تستطع أن تجاريها تجارب أخرى. ولأن هذا الاستنتاج يفند الفرضية أعلاه أضاف قائلا “إن ذاكرة الشاعر المهمومة تحاصره فلا يتحرر إلا حين يترك التدوير ويتجه إلى آفاق أخرى مختلفة..” ولم يبن تلك الآفاق، بل ترك أمرها مفتوحاً على المجهول.

الهوامش

[1] شعراء خارج البيان الشعري، د. خالد علي مصطفى، دار سطور بغداد، ط1، 2020، ص11.

[2] استند  د. خالد علي مصطفى في تحليل قصائد الشعراء حسب وحميد وسركون إلى بعض مفاهيم النقد القديم كمفهوم الإشارة عند قدامة بن جعفر ومفهوم هيأة الحركة عند عبدالقاهر الجرجاني، ينظر: المصدر السابق، ص116 و121.

 

[ad_2]

Source link

من sanaanow